ربما ينجح مبعوث الأمم المتحدة مارتن كوبلر فيما فشل به سلفه الإسبانى برناردينو ليون، ويتم الاتفاق على تشكيل حكومة وفاق وطنى فى ليبيا، بدلا من حكومتين وبرلمانين فى طبرق وطرابلس، ولكن دون أن يعنى ذلك نهاية لمأساة ليبيا، ولا ضمان عدم العودة لاقتتال بين الأطراف المتصارعة، ولا تحصين ليبيا من انقسام ترتسم ملامحه على الأرض، ولا من توحش ∩داعش∪ الذى يتخذ من ∩سرت∪ قاعدة حصينة لتوسعها باتجاه الشرق والغرب الليبى معا.
والسبب فيما نتوقعه ظاهر ببساطة، وهو أنه لا أحد بوسعه أن يضمن حتى أمن وزراء الحكومة التى تبدو موحدة، ولا حتى مكان إقامتها ومباشرة أعمالها، إضافة للتناقضات الداخلية التى قد تمزقها فى أى لحظة لو قامت، فالحكومة لاتأتى كثمرة لانتخابات عامة، بل بتوافق حسابى بين برلمانين، كلاهما انتهت مدته، صحيح أن برلمان طرابلس (المؤتمر العام) قديم جدا، وانتهت مدته قبل أكثر من سنتين، بينما برلمان طبرق (مجلس النواب المعترف به أمميا) أحدث، لكن مدة الأخير انتهت هى الأخرى فى أكتوبر الماضى، وقررت أغلبيته مد فترة وجوده لستة شهور، وربما تمد لسنة بحسب الاتفاق الدولى المزمع ، وعلى سبيل التحسب لتعثر مشاورات تشكيل حكومة وفاق مرضية، وهو برلمان لا يرضى عنه المتحكمون فى طرابلس من الإخوان وحلفائهم فى الجماعة الليبية المقاتلة القريبة تاريخيا من تنظيم القاعدة الإرهابى، وقد تكون حكومة الوفاق طوق نجاة لهؤلاء، إذ أنها تمكنهم بما لا يتاح لهم فى أى انتخابات عامة، وتمنحهم فرص المناورة لسنتين هما عمر حكومة الوفاق المقررة، وعلى أمل كسب أكبر فى انتخابات تأتى متأخرة حسب الخطة، بدلا من انتخابات سابقة كانوا يخسرونها بانتظام، وتفوز بها القوى الوطنية الليبية الأقرب عموما للسياسة المصرية، بينما تعول جماعات الإرهاب على دعم تركى بالسلاح، وعلى دعم قطرى بمليارات الدولارات، وتتبنى مفهوما ضيقا للإرهاب يحصره فى تنظيم ∩داعش∪، ويحسره عن الإخوان والقاعدة و(أنصار الشريعة) المدرجة أمميا كتنظيم إرهابى .
وليس الخلاف حول تعريف الإرهابيين هو وحده العقبة، فخرائط ليبيا الواسعة ممزقة إلى أبعد حد، وعدد عناوين الميليشيات يتجاوز الألف وستمائة، بعضها أيديولوجى على طريقة الداعشيين والقاعديين والإخوان، وبعضها جهوى ومناطقى على طريقة قوات مدينة ∩مصراتة∪ وغريمتها قوات مدينة ∩الزنتان∪، وبعضها عرقى على طريقة ميليشيات ∩التبو∪ فى الجنوب، وأغلبها عصابات مسلحة تسلب وتنهب وتفرض الإتاوات وتقطع الطرق فى مدن ليبيا وقراها ومضاربها، وبعضها الأخير له طبيعة سياسية أوسع على طريقة رئاسة الأركان التابعة لحكومة طرابلس، و∩جيش القبائل∪ الموالى للقذافيين فى الغرب الليبى، والمتحالف فى معارك الميدان مع الجيش الوطنى الليبى القريب من مجلس النواب، والذى يقوده الفريق خليفة حفتر، ويسيطر بعامة على الشرق الليبى من حدود مصر حتى بنغازى، فوق وجود أقل لقواته المتحالفة مع ∩جيش القبائل∪ فى معارك غرب طرابلس، وهكذا تبدو المعضلة الكبرى فى الوضع الليبى الراهن، فخرائط توزيع السلاح تفتت ليبيا على الأرض، وليس ثمة جيش موحد قابل للعمل تحت إمرة الحكومة الموحدة المزمع تشكيلها، وهو ما يهدد بجعلها ∩حكومة معلقة∪ تحكم نظريا، بينما لا تملك أمرا ولا نهيا على أحد، فوق احتمالات تمرد المجموعات المسلحة على أقربائها السياسيين.
وقد يقولون لك إن الكل سوف ينسى خلافاته، وسوف يتوحدون معا فى الحرب ضد ∩داعش∪، وهذا مجرد كلام افتراضى بلا ظل حقيقى على الأرض، فلا أحد يتوقع أن تنخرط جماعات الإخوان والقاعدة فى حرب حقيقية ضد ∩داعش∪، ليس بسبب صلات القرابة الأيديولوجية وحدها، بل بسبب الصلات المشبوهة لهذه الجماعات مع قطر وتركيا، وكما تدعم هاتان الدولتان جماعات الإخوان والقاعدة فى سوريا، فهى تدعمها أيضا فى ليبيا، ومع اتفاق صريح على عدم التورط فى الحرب ضد ∩داعش∪، ثم أن هذه الجماعات سبق لها أن هربت مذعورة من حرب ∩داعش∪ فى سرت، وتركت ميليشيات ∩مصراتة∪ وحدها، وهو ما يؤكد القاعدة العامة التى باتت معروفة، وهى أن وجود الإخوان وجماعات القاعدة فى أى جغرافيا هو مجرد حالة موقوتة، تحرث الأرض وتمهدها وتقلبها بأفكار التطرف والهوس الدينى، ثم يأتى ∩داعش∪ ليسيطر فى النهاية، فداعش هو أعلى مراحل تطور ما يسمى بالحركة الإسلامية، وهو ما يفسر خرائط زحف ∩داعش∪ الميسر إلى أراضى الإخوان والقاعدة بالذات، ويفسر تعاظم قوة ∩داعش∪ فى الغرب الليبى، ومن سرت إلى طرابلس، واستقطابها لشباب التطرف التونسى، وحيث الحدود غير المحمية بما فيه الكفاية، إضافة للحدود السائبة مع دول أفريقيا الزنجية المجاورة لليبيا، والتى تتدفق عبرها جماعات ∩بوكو حرام∪ وأشباهها للالتحاق بدولة ∩داعش∪ فى سرت ، والتى تتحول إلى ملاذ مفتوح عبر البحر لقادة ∩داعش∪ النازحين من معارك سوريا والعراق، والمحصلة ظاهرة، وهى أنه لا أحد مؤهل لحرب برية ضد داعش ليبيا، سوى الجيش الوطنى الليبى بعقيدته القريبة من تقاليد الجيش المصرى، وهو ـ الجيش الليبى ـ بحاجة إلى مد الجسور مع قوات ∩مصراتة∪ و∩الزنتان∪، فوق صلات الميدان المحققة مع ∩جيش القبائل∪، وعلى أن يتم دمج هذه القوات فى جيش ليبى موحد، يرفع عنه حظر السلاح المفروض دوليا منذ ذهاب نظام القذافى، فلا قيمة لكلام كثير يدور هذه الأيام عن اهتمام أوروبى بما يجرى فى ليبيا، ولا عن استعداد فرنسى أو بريطانى أو إيطالى لحرب جوية ضد داعش فى سرت ، فلا قيمة للقصف الجوى بدون رديف برى قادر على قهر وإفناء ∩داعش∪ ، ولا يقدر على المهمة سوى جيش وطنى ليبى موحد، يحظى بالدعم المباشر من الجيش المصرى وسلاحه الجوى والبحرى.
نعم، القضية فى ليبيا ليست فى مجرد إقامة حكومة وفاق وطنى، بل الأهم هو الجيش الوطنى القادر على استعادة وحدة ليبيا، وتطهيرها من اللصوص وجماعات الإرهاب.