ذهبت إلي فرنسا بدعوة من مؤسسة فنية ثفافية تسمي «intermondes» معنية بالفنون والآداب في العالم. مقر هذه المؤسسة هو مدينة لاروشيل الجميلة علي المحيط الأطلنطي. منذ خمسة عشر عاما كنت في لاروشيل لمدة ثلاثة أشهر بدعوة من محافظتها وجامعة بواتييه. هذه المرة طلبت من صديقي الكاتب الجميل جبار ياسين أن يخبرهم برغبتي في الزيارة. تحمست هذه المؤسسة لزيارتي. كتبي المترجمة في فرنسا وذهابي إلي لاروشيل من قبل. طلبت هذه الزيارة لأبقي بعيدا بعض الوقت عن القاهرة. أريد البدء جادا في رواية جديدة. مشكلتي في الكتابة هي أن أبدأ. ما إن أبدأ حتي أستمر. إذن لأنفض عن ذهني مشاكل القاهرة ومصر علي الإجمال علي الأقل حتي أبدأ. كان طبيعيا أن أمضي أسبوعا في باريس قبل السفر إلي لاروشيل. في الطائرة قابلت الخبير الزراعي محمود عمارة. اتفقنا أن نلتقي بعد يومين في السان ميشيل. الحي القديم الذي أعشقه. التقينا وتحدثنا مرغمين فيما يحدث في مصر لكن الجو حولنا جعل حديثنا حلوا رغم أن ما نتحدث فيه ليس كذلك. وأكملنا الحديث عن الذكريات الباريسة في جلسة مع السكندري» سمير» صاحب مطعم «استيريا» الصغير في السان ميشيل والذي أعرفه منذ عشرين سنة ويعرفه الدكتور عمارة قبلي. الأمر نفسه حدث مع الشباب المصريين الذين عرفوا بقدومي إلي باريس. الباحث في السينما شريف الرملي وزوجته الفرنسية. داليا حسن ،هيباتيا الاسكندرية التي كان لها دور كبير في إنقاذ الشاب المصري يوم الهجوم الإرهابي علي الاستاد. شاهيناز عبد السلام المهندسة المصرية والمدونة الشهيرة سنوات 2005 وبعدها ، وطبيعي جدا أن التقي بأصدقائي العرب من الكتاب والمفكرين. فالح مهدي والطيب ولد العروس وبدر الدين عرودكي وفاروق مردم وخليل النعيمي وانعام كججي وصديقنا الفلسطيني الجميل وهيب أبو واصل وغيرهم. كانت كل لقاءاتنا في الكافيهات والمطاعم. وبينها أترك نفسي لشوارع باريس ومتاحفها التي أعشقها. تزودت براحة وقوة فنية وحب للحياة تعودت عليه كلما زرت باريس. كل أحاديثنا كانت عما جري ويجري في المنطقة العربية ، مصر والشام والعراق واليمن. وحدث صدفة جميلة في السان ميشيل أن قابلت الكاتب اليمني الذي أحبه « علي المقري» الذي عرفت رواياته الطريق إلي اللغات الأجنبية. رأيت ابتسامته وسط الطريق حين رآني. الكاتبة الشابة السورية سمر يزبك والناشطة السياسية وقفت أمامي تبتسم ونحن بالمقهي. آخر مرة رأيتها كانت منذ ثماني سنوات. وقفت أصافحها خجلا طالبا أن تعرفني باسمها. الأحداث في مصر بعد ثورة يناير والعمر طبعا أضاعا كثيرا جدا من الذاكرة. انضمت سوريا إلي مصر واليمن علي «تراس « المقهي حيث يتاح التدخين. ليت ذلك يحدث في مصر فيمنع التدخين في أي مكان مغلق. لم أعد أدخن غير خمس أو ست سجائر في اليوم. لم نتأخر كثيرا لأنهم جميعا يعملون. ساعتان تقريبا مرتا بسرعة. تفرقنا فوجدت نفسي وحدي في شوارع باريس التي أحبها. بدا لي أن ما تحدثنا فيه ينتمي إلي التاريخ. قلت لن أضيع الفرصة أبدا، وهاهي باريس كالعادة تساعدني في نسيان الآلام. بعد يومين من هذا اللقاء أخذت طريقي إلي لاروشيل. وجدت نفسي أفكر كيف حقا لم أجد أي مشقة في أي مكان باعتباري عربي الوجه. كيف كانت المعاملة في كل مكان في غاية الرقة رغم الأحداث الفظيعة التي مرت بباريس وانتهت برعب أن يفوز اليم ين المتطرف في الانتخابات ، لكنها فرنسا في النهاية لن تتخلي عن قيمها الإنسانية. ولم يصل اليمين المتطرف إلي الأغلبية المطلوبة.