شاهدت علي إحدي القنوات الفضائية فيلما مصريا جميلا اجتمعت له كل أسباب الفن إخراجا وتصويرا، قصة وموسيقي... الغناء لا تعليق لي عليه، غناء راق لأم كلثوم العظيمة، تربي علي حنجرتها المثقفة أجيال وأجيال.. ارتقت وسمت به عواطفنا في الحب والجمال والوطنية.. بثقافتها اختارت أشعر الشعراء وأبلغ الكلمات.. بعد مشاهدتي لفيلم فاطمة، أويت إلي فراشي مهموما.. الفيلم العبقري مذاع علي فضائية ليست مصرية.. هذا الفيلم هيئة دفاع كاملة عن شرف مصر، الذي أهدر في ساحة الفن علي يد فنانين لقطاء، عبثوا بتاريخها العظيم، وبحضارتها التي أشعت بنورها علي كل أرجاء الوطن العربي.
تدور أحداث الفيلم في أحد الأحياء الشعبية التي هي أصل مصر.. يدق التليفون علي مكتب صاحب فرن شعبي بالحارة، طلبا لفاطمة الممرضة التي تعيش مع أمها الأرملة وابن شقيقها يتيم الأبوين والتي تكفلهما فاطمة.. ينادي صاحب الفرن علي زوجته، أن تنادي فاطمة، وبدورها تنادي جارتها تسألها المساعدة، الجارة تستعين بطفلة أمام البقال أن تقرع باب فاطمة.. لقطة يعرفنا بها المخرج عن الحب الجميل بين أهل الحارة، وحرصهم علي مصلحة ابنتهم، التي لا تألو جهدا في مساعدة من يمرض منهم.. أين نحن من سينما اليوم، الحارة الشعبية المصرية فيها مجموعة من الحشاشين البلطجية والأطفال المنحرفين، شمامي الكلة.
في مشهد الإفطار تجلس الأم وفاطمة وابن الشقيق علي السفرة، وأمامهم براد الشاي الصيني، والفناجين وفطيرة بالسكر من صناعة الأم.. الكل يضع نصيبه في الطبق أمامه، يتعامل معها بالشوكة والسكين.. وإن لم يكن ذلك يحدث في الأحياء الشعبية، فإن السينما أداة ثقافة وترقٍ وتعليم... لم يظهر لنا المخرج الأسرة الشعبية وهي تشرب الشاي، بصوت مسموع من الكوب الزجاجي، ولا تلتهم قطعة الفطير بالعسل (وتمصمص ) أصابعها، ولا يتحدث الطفل وفمه ممتلئ بالطعام ( يتفتف ) وهو يهم مسرعا ليلحق بالمدرسة.. في مشهد علي السفرة أيضا وكان معزوما عندهم ابن الباشا، لم يصور لنا الأم وقد قبضت علي الفرخة ( تفسخها ) بيدها، تنضح بالدهن بدعوي الواقعية، كما نشاهد في أفلامنا اليوم.. دور الفن ألا يغرقنا في واقعية مقززة ولكن واقعية مجملة.. الحوار جاء شعبيا مهذبا، لبيرم التونسي بالعامية الجميلة.
إرتدت فاطمة في بيت الباشا زي الممرضات الأبيض كاملا، من الحذاء إلي غطاء الرأس، احتراما للمهنة الإنسانية السامية وليس كما تأتي شخصيتها أقرب للغانيات منها للممرضات، في فيلم اليوم.. مشهد في مكتب محل زنكوغراف يستخرج لهم أحد الجيران، صورة من عقد الزواج العرفي، يطلب الخواجة عشرين قرشا، مبلغ فوق الطاقة، ابن الحارة يفاصل في غلو الثمن.. صاحب المطبعة يشير بإصبعه علي لافتة، تقول الأسعار محددة ( بريس فيكس ) يلومه ابن الحارة علي كتابتها بالإفرنجية ( وليه ما تكتبهاش بالعربي ده انت فاتح في مصر.. مش في أوروبا ) أين نحن الآن من أسماء المحلات والشوارع.. أسماء أبنائنا كلها أمريكية وكأن الاستعمار مازال علي أرضنا.. دور الفنان تثقيفي وطني، وليس جمع المال وتقبيل النساء ليشبه الأمريكان... لقطة ادخرتها أختم بها انطباعاتي.. فيلم فاطمة تثقيفي.. طلب البطل ابن الباشا والحسب والنسب، أن يعيش مع فاطمة بلا سند قانوني أو حتي ورقة... هذه الورقة التي تتمسك بها فاطمة هي التي أعطت ابن الباشا كيانه، شخصيته، هي شرف حارتها، شرف عائلتها.. شرف الوطن وليس ملكها.. إنه معني الشرف في فنون مصر زمان، وليس معناه، الذي يأتي في أفلام بلا شرف