فى مثل هذا اليوم المبارك الثانى عشر من ربيع الأول.. لأول عام بعد حادثة الفيل الموافق للعام الميلادى 571.. وهب الله الأرض نورها، واختارت السماء رسولها، إلى الناس كافة.. فكان المولد الشريف للحبيب المصطفى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم عليه صلاة ربى وملائكته وسلام الناس أجمعين.
وتقول السيدة آمنة بنت وهب أُم الرسول : لما ولدته خرج منى نور أضاءت له قصور الشام، كما روى ابن سعد.
وقد رُوى أن إرهاصات ببعثته وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفةً من إيوان كسرى، وخمدت النار التى يعبدها المجوس. وكأنه إعلام للدنيا ولإمبراطوريتيها الأعظم حينها.. بأن دولة الحق قادمة وأن رسول الهدى قد وُلِد.
وُلِد يتيماً فقد مات عبد الله بن عبد المطلب وهو جنين فى بطن أمه.. ثم ماتت أمه وهو ابن السادسة ومات جده عظيم قريش عبد المطلب وهو فى الثامنة، فكفله عمه أبو طالب وظل يرعاه إلى ما قبل هجرته الشريفة بنحو ثلاث سنوات..
وكلنا يعرف عن رحلته الأولى عليه الصلاة والسلام مع عمه أبى طالب إلى الشام فى تجارة.. وهو ابن الثانية عشرة من العمر.. وكيف عرف بأمره راهبٌ إسمه جرجيس ويُعرف بالراهب بحيرا، لما نزل الركبُ خرج إليهم وأكرمهم بضيافته، وكان لا يخرج قبل ذلك لأى ركْب من التجار، وعرِفَ الراهب رسول الله بصفته، فقال وهو أخذٌ بيده : هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمةً للعالمين. فقال له أبو طالب : وما علمك بذلك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجرٌ ولاشجر إلاّ وخرّ ساجداً، ولا تسجُدُ إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة فى أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنّا نجده فى كتبنا. وسأل الراهب عمّه أن يرد محمداً، ولا يقدم به إلى الشام، خوفاً عليه من اليهود، فبعثه أبو طالب مع بعض غلمانه إلى مكة.
وحقاً كما يقول الله تعالى : ( ولتجدن أشد الناس مودّةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى.. ).
وهكذا لازمت عنايةُ الله ورعايتُهُ محمداً ليتجاوز كل ما صادفه من يُتم ومصاعب وعقبات، فى حياة الكدح التى تواجد فيها.. ليُثرى فيما بعد الحياة كلها وليملأها نوراً وصدقاً وأمانةً ويقيناً.
هذا الأمين عليه الصلاة والسلام والذى جمع فى نشأته أرقى ما فى الناس من ميزات، وكان نموذجاً للفكر الصائب والنظر السديد، وبَصُرَ بعقله الراجح وفطرته السليمة الحياة والناس، وعايش الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حسناً شارك فيه، لم يشرب الخمر ولم يأكل ما أُهِل لغير الله به، ولم يحضر للأوثان عيداً، بل كان عليه الصلاة والسلام منذ نشأته نافراً من هذه الأصنام الباطلة..
لقد كان عليه الصلاة والسلام تجسيداً صادقاً للفطرة التى فطر الله الناس عليها. ولهذا فديننا الإسلامى هو دين الفطرة التى تتوافق مع طبيعة الرسالة التى خلق الله الناس لكى تستقيم الحياة.. وتتحقق أهداف الخلق ويظهر الحق جلياً واضحاً.
وسبحان من أحسن تأديب نبيه، ليكون فى ذاته حجّةً للدين وفى أخلاقه مثلاً وقدوة. فقد كان يمتاز فى قومه بأخلاقه الفاضلة وشمائله الكريمة فكان أفضل قومه مروءةً، وأحسنهم خلقاً،وأعزُّهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وكان فى الأمانة المثل الذى يُضرَب، حتى أسماه قومُه الأمين، عليه الصلاة والسلام.
ولما قاربت سنّه الأربعين، وكانت تأملاته السابقة فى الحياة والناس قد زادت الفجوة العقلية بينه وبين قومه، اتجه إلى غار حراء، ويقضى وقته فى التأمل والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من شرك وتصورات واهية، ولكن ليس أمامه طريق ولا منهج محدد يطمئن إليه قلبه ويرضاه..
ولقد كان اختيار النبى الكريم لهذه العزلة طرفاً من تدبير مولاه، ربه ليعدّه لما ينتظره من الأمر العظيم.
وكما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها : «أول ما بُدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح «.
ثم جاءه جبريل بالوحى.. وانطلقت إلى الدنيا الرسالة الخاتمة..
وقام رسول عليه الصلاة والسلام الله من حينها أكثر من عشرين عاماً، لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله، يحمل على كاهله كل تكاليف السماء إلى الأرض والبشر، ويحمل عبء البشرية كلها وعبء العقيدة بأجمعها..
وما أحرى الأمة كلها أن تحييَ ذكرى مولده الشريف لتحيى فى ذاتها كل هذه المعانى، التى أصبحنا نعانى فى ظل غياب البعض منها عن البعض منا..
لقد صُنعت هذه الأمة بمواصفات هذا الدين الذى جاء به الأمين.. وبدون ذلك سنظل بعيداً عن الدنيا والدين. ( إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ).
وكل عام وأنتم بخير