خرج الوحش»الفرانكشتايني» عن طوع صانعه، وانقلب السحر علي الساحر، تماما كما جري مع قاعدة بن لادن، التي صنعوها في أفغانستان

لن يمر وقت طويل حتي تنتهي قصة داعش، وحتي تسمع خبر اغتيال «أبو بكر البغدادي» الذي يسمي نفسه خليفة المسلمين، وربما لا تظهر له جثة علي طريقة مقتل بن لادن، ودون أن يعني ذلك خلاصا للمشرق العربي، ولا تحررا أكيدا لشعوبه، ولا استعادة لدوله الوطنية، فلا شئ مما كان قبل «الحمي الداعشية» سيعود كما كان.
والسبب الظاهر فيما نتوقعه بسيط وصريح، فالذين صنعوا داعش، وهيأوا لها ظروف ودواعي الولادة والتضخم والتوحش، هم أنفسهم الذين قرروا، ويقررون قتلها الآن، فقد خرج الوحش»الفرانكشتايني» عن طوع صانعه، وانقلب السحر علي الساحر، تماما كما جري مع قاعدة بن لادن، التي صنعوها في أفغانستان زمن المعركة ضد الغزو «السوفييتي» القديم، ثم راحت تعض أصابع أولياء النعمة في واشنطن، وتحطم أبراج العظمة المنتفخة في نيويورك، فكان الانقلاب علي القاعدة و»طالبان» في أفغانستان، وتماما كما يحدث الانقلاب الأمريكي والأوروبي علي داعش في سوريا والعراق الآن، بعد صدمة هجمات 13 نوفمبر 2015 في باريس، والتي تعيد إلي الذاكرة وقوع حوادث 11 سبتمبر 2001، وهو ما حول غارات التحالف الأمريكي إلي حمم نار حقيقية الآن، وبعد أن ظلت الغارات إياها لزمن طويل أشبه بعمليات المداعبة، وأقرب إلي ألعاب وحروب الكومبيوتر، وكان لديناميكية التدخل الروسي أثرها المباشر، فقد خشيت واشنطن أن تستأثر موسكو بمصائر الشرق العربي المضطرب، وراحت تضفي جدية أكبر علي تدخلها، وتحاول منع العراق الرسمي من الالتحاق بقطار موسكو، وتقدم دعما مؤثرا للقوات العراقية في معركة استعادة «الرمادي» عاصمة الأنبار، فوق التخطيط المشترك لاستعادة الموصل «درة التاج» في دولة داعش الكرتونية، ومزاحمة روسيا في المعارك الجارية علي الأراضي السورية، وبلورة تحالف في شمال شرق سوريا يقوده الأكراد، ويشمل عشائر عربية سنية وآشورية مسيحية، ويحمل اسم «قوات سوريا الديمقراطية»، ويحقق انتصارات مبهرة متوالية، كان أخطرها استعادة «سد تشرين» الحيوي علي نهر الفرات من يد داعش، والتمهيد لمعركة تحرير «الرقة» العاصمة الرسمية لخلافة البغدادي.
وبالتوازي مع قصص مسار «فيينا»، وقرار مجلس الأمن الأخير لبدء مفاوضات حل الأزمة السورية، وهو القرار الذي قدمت روسيا طبعته الأساسية، ووافقت عليه واشنطن في توافق وقتي نادر، بالتوازي مع الحديث عن مفاوضات قد تجري أو تتعثر، تتم تحولات ميدانية موحية علي الأرض، وتتخلق وقائع جديدة، تطلق فيها يد روسيا في عمل ما تريده بسوريا «المفيدة» لقواعدها العسكرية الكبري علي شاطئ البحر المتوسط، وفي مقابل إطلاق يد أمريكا بالعراق وصحراء الشرق السورية، ومع تواتر جولات السباق بين الطرفين علي جذب الأكراد، وتقييد حركة تركيا في سوريا والعراق معا، فقد قطعت روسيا يد ورجل تركيا في سوريا، ولم تبد واشنطن ممانعة في شطب حلم أنقرة بإقامة «منطقة آمنة» تابعة لها وللتركمان في شمال سوريا، وأججت روسيا غضب بغداد من دخول قوات تركية إلي قاعدة «بعشيقة» شمال الموصل، وضغطت واشنطن علي تركيا لسحب قواتها، وبدا أن واشنطن توافق موسكو علي تحجيم الدور التركي الإقليمي في دول الجوار العربي، وقد كانت تركيا هي البوابة الكبري لدعم داعش بالمقاتلين الأجانب، وهي الناقل المفضل لمليارات الخليجيين الموهوبة لدعم «داعش» و»النصرة» و»أحرار الشام» مع «جيش الإسلام»، وهي الجماعة التي قتل قائدها «زهران علوش» أخيرا بمعونة روسيا التكنولوجية والمخابراتية للطيران الحربي السوري.
وبالجملة، يبدو أن الساحة السورية يعاد رسم خرائطها، ويعاد تشكيل الجغرافيا السياسية تحت صهر النيران الروسية والأمريكية، فروسيا تعبئ القوات البرية للحلفاء السوريين والإيرانيين واللبنانيين، وتستهدف بالحد الأدني ضمان سلامة وولاء ما تسمي «سوريا المفيدة»، وهي تضم المدن الكبري علي الساحل وفي الوسط السوري، تضم «حلب» و»اللاذقية» و»طرطوس» و»حمص» و»السويداء» و»حماة»، وإلي جوار «دمشق» وصولا إلي الجنوب في «درعا»، ثم اعتبار بقية المناطق ميدانا لحرب متصلة خارج سياق المفاوضات المزمعة، فداعش والنصرة وأخواتها ليست مشمولة بوقف إطلاق النار المقترح دوليا، وهو ما يعني أن شمال وشرق سوريا في جداول الحسابات الآجلة لا العاجلة، وبما يفسر سعي أمريكا لتركيز عملها في شرق سوريا، وسبقها لروسيا في الإمساك بورقة الأكراد، وهم الحصان الرابح في المعمعة كلها، فهم يلتهمون ما استطاعوا من أراضٍ مستعادة من داعش في العراق، ويضعون أيديهم علي جغرافيا أوسع بكثير جدا من حدود إقليم «كردستان»، وهم في سوريا أكثر حيوية وراديكالية من وجودهم في العراق، وقواهم الأنشط مرتبطة عضويا بحزب العمال الكردستاني المحارب في تركيا، ولا تمانع واشنطن في استمرار لعبتها المزدوجة المعتادة، فهي تبدي تفهما ظاهريا لخوف حليفتها «الأطلنطية» تركيا من تزايد نفوذ الأكراد، لكنها لا تتواني في الوقت نفسه عن دعم أكراد سوريا، وتعتبرهم قواتها البرية المفضلة، ووقود الحرب الجاهز بدلا من التضحية بدماء الأمريكيين المرعوبين من الداعشيين، وكانت واشنطن تأمل في جعل سوريا بمثابة أفغانستان استنزاف أخري للروس، لكن الروس يواصلون تدخلهم الكثيف في سوريا، وبدون التورط الذاتي المباشر في الحروب البرية، ويقدمون أنفسهم للأكراد كحليف أكثر دواما وأدعي للثقة من الأمريكيين، فقد قررت روسيا عقاب تركيا للنهاية علي ذنب إسقاط «السوخوي»، والورقة المفضلة عندهم هي دعم الأكراد، فلا شئ أكثر من غضب الأكراد يمكن أن يقوض تركيا من الداخل.
وإعادة تركيب الصورة يوحي بالتالي، وهو أن اختفاء داعش وخليفتها صار أمرا مرجحا وقريبا جدا، فلم تعد لها من فائدة ترجي للأمريكيين والأتراك والخليجيين، ولكن دون أن يتوقف السعار الطائفي، ولا إمكانية استنساخ طبعات أكثر انغلاقا وجهالة ودموية من داعش البغدادي، ولا تمزيق لحم الجغرافيا، ولا عودة السلامة والحدود المحصنة لسوريا ولا للعراق، ومع نمو ملحوظ لوزن العرقية الكردية، وإشعال كرات لهب جديدة، تستأنف حروب الممالك والطوائف الهشة.