إنه لأمر مؤلم أن يعطي إعلامنا وفضائياتنا الفرصة لمن يحتاجون إكمال تعليمهم ليكونوا أساتذة يدرسون للناس ما لا علم ولا قبل لهم به

ما كاد الشيخ الوقور ينتهي من درسه في رواق المجلس حتي عاجله واحد من المتحذلقين يسأل: يا مولانا، هل يجوز دخول الحمام بالموبايل المخزن عليه القرأن؟ الشيخ: نعم يجوز، ودار الحوار التالي، السائل: يا شيخ القرآن الكريم مخزن فيه، الشيخ: لا بأس أليس محفوظاً في شريحة الذاكرة؟ السائل: بلي يا مولانا، بس ده القرآن، الشيخ متأففاً: وهل أنت من حفظة القرآن؟ السائل: أحفظ خمسة أجزاء كاملة، الشيخ: خلاص لما تيجي تدخل الحمام إبقي سيب دماغك برة. ولأنه لجوج لزج، فقد أضاف: يا مولانا وهل يجوز أكل لحم البطريق؟ وعاجله الشيخ الذكي بلباقة وسرعة بديهة: إذا لقيته أو أمكنك اصطياده فكله، وفي تنطع يحسد عليه استأذنه في سؤال أخير: يا شيخنا لو أنا بأصلي في غابة وطلع عليّ أسد هل أكمل صلاتي أم أقطعها؟ وجاءت إجابة الشيخ قاطعة مهذبة وموحية: لو استطعت أن تظل محافظاً علي وضوئك حال مهاجمة الأسد لك، فأكمل الصلاة. بالطبع الشيخ يعرف بالضرورة أن مقاصد الشرع خمسة، هي أن يحافظ للمسلم علي حياته ودينه وعقله وعرضه وماله، وأنه ليس مطلوباً من أحد أن يعرض حياته للخطر من أجل أداء فرض، رخص لنا فيه سبحانه وتعالي الجمع والقصر والقضاء، وأن الدين يسر لا عسر، هذا ما لم يقله الشيخ الذكي، الذي لم يغب عن إدراكه منذ اللحظة الأولي، أن صاحبنا لا يسأل حتي يفهم أو يتعلم، إنما هو يفتئت علي الدين في محاولة للتثاقف وادعاد المعرفة، وأنه يفترض قضايا تخاصم الواقع وليست محلاً لخلاف فكري يحوز أولوية تؤرق الناس وتحيط بالمجتمع، إذ ما ضرورة أن أحمل معي الموبايل إلي الحمام أو أتركه، هذا إذا ما توجب علينا أن يكون لكل منا موبايل من الأصل، ناهيك أن يكون هذا شرطاً من شروط الإيمان أو الأركان الخمسة للإسلام، ثم هل اعتاد الناس الاختلاف إلي الغابة كل حين؟ وما هي ضرورة الذهاب المتواتر للغابة، في مثل حياتنا العصرية التي يندر فيها وجود الغابات أو يتحتم الولوج إلي أحراشها والتعرض للمفترسات فيها؟ وهل تحول البطريق إلي واحد من الأكلات المعروضة علينا في الأسواق؟ أو التي يعز وجود بدائل لها. هذه تساؤلات تتبادر إلي الذهن بمجرد النظر في نوع أسئلة الرجل، ولعلها تشي بأنه يحاول التقعر والتنطع وافتراض ما يصعب افتراض وقوعه واحتماله. وهذا السيد المتنطع يقترب بسلوكه المستهجن هذا ممن أضاعوا وقتنا في فقه دخول الحمام والخروج منه، والطقوس المقترحة بشأنه، وهو كمن تنطع من قبل في تراثنا فراح يسأل عن حكم من حمل قربة من الفساء علي ظهره؟ وهل ينقض هذا وضوءه؟ إنها محاولة لاجتراح المستحيل واللامعقول نثقل به تراثنا الفكري المرهق من مثل هذه الترهات والافتراضات اللامنطقية، وكأننا نبحث في لزوم ما لا يلزم، نعقد الدين ونحرج الفتوي ونفترض ما لا نعتده في حياتنا، فنتكلم عن رضاع الكبير ونكاح الوداع ومفاخذة الصغيرة والتشافي بشرب بول الرسول. هل هذا معقول، وهل أضحي من ضرورات حياتنا المعاصرة؟ أم هو نوع من التنطع دون مقتضي ولا مسوغ من عقل أو دين أو ضرورة؟. ولعله كذلك، وما لم يكن الشيخ المسئول بأعلم وأحكم وأعقل من السائل، ما جاءت إجاباته بهذا القدر الذكي اللماح الذي يحمل من التقريع والسخرية والاستهجان أكثر مما يحمل من جدية، ولعل الشيخ قد اكتشف بشخصه النابه عدم موضوعية السائل ومحاولات تقعره رغم جهله وفضاء عقله وسخف قوله ولاموضوعية سؤاله وضيق أفقه.
شئ من هذا، أو لنقل ربما كل هذا يتبادر إلي ذهني كلما أوقعني حظ عاثر في متابعة أمر مما يطرح علي شاشات قنواتنا الفضائية فيما أسموه «التوك شوز» ولعله «التوك شوك» بما ينضح بالغباء والجهل ومحدودية المعرفة وضيق أفق بعض الإعلاميين الجدد، وما يرشح من أفكارهم السطحية البليدة حين يتعهدوننا بالنعيق والزعيق والصراخ في وجوهنا، بحجة أنهم يعلمون الشعب ويثقفون الناس ويدرسون لنا شئون السياسة وقضايا الوطن، وشروط المواطنة، وكيف علينا أن نتحول إلي قطيع من السائرين نياماً خلف شعاراتهم المدرسية الباهتة وأفكارهم العبيطة. ولا أغالي إذا ما قلت ان علي كثيرين منهم أن يستكملوا تعليمهم، ولا أقول ثقافتهم، فهم أبعد ما يكونون عن الفكر والثقافة والمعرفة، ويالغرابة ما نحن فيه بسبب هؤلاء المسطحين الجهلاء، لا لغة سليمة، ولا دراية بأمر ما يتحدثون فيه، ولا جهد مبذولا في الإعداد ولا التنفيذ، اللهم إلا الجهد الضائع في الصراخ والزعيق.
إنه لأمر مؤلم أن يعطي إعلامنا وفضائياتنا الفرصة لمن يحتاجون إكمال تعليمهم ليكونوا أساتذة يدرسون للناس ما لا علم ولا قبل لهم به، أقصد الإعلاميين لا الناس. لقد زاد الأمر عن حده، ولعله انقلب بالفعل إلي ضده. ولعل شجاعة المواجهة تقتضينا القول بأن أزمة الإعلام التي تفاقمت في بلادنا تزامنت مع دخول الصحفيين إلي عالم الفضائيات، فاحتكروا الصحافة وهووا بمستواها واحتكروا الفضائيات وأهانوا بجهلهم العلم والفكر والسياسة، ولا أستثني منهم إلا قليلاً ممن رحم ربي ممن هم مؤهلون للكلام والإضافة، أما الغالبية المفلسة من صحفيي الفضائيات فهم خير عنوان علي أزمة الإعلام في بلادنا وعلي ما نعانيه من تخلف وتغييب وعي، أضافوا إليه نفعية مقيتة وشللية مسيطرة فصاروا تايكونات كما «الكومبرادور» يصادرون الشاشات والجرائد والمواقع الإلكترونية والبوابات الإخبارية ويتحكمون في نافذة الناس علي الخبر والرأي والثقافة والحقيقة، ويعملون لصالح رؤوس الأموال المحمولة جواً كما شرحنا في مقالات سابقة. زاد الطين بلة إحتكار الإعلانات من جانب بعض المشبوهين الذين يفرضون رؤاهم وشروطهم علي أصحاب القنوات، وهي في مجملها ضد صالح الوطن وضد مصالح الشعب الذين يعملون علي تغييب وعيه وتسطيح أفكاره ببرامج التفاهات والمسابقات العبيطة وبرامج مذيعات «البورنو» اللبناني، ويفرضون مذيعين علي شاكلة صاحبنا اللجوج اللزج المتحذلق بلا تبعة أو مبرر، الذي راح «يفتكس» ويتنطع علي الشيخ بالأسئلة في لزوم ما لا يلزم، ومذيعات بعينهن من أنصاف المؤهلين وفنانات الصف العاشر والراقصات، وكأنها مؤامرة علي عقل الشعب ووعيه، تزرع قيم السلب والجهل والاستسهال والعبط في أذهان الشبان والمراهقين وتفرض الوصاية علي شعب أجهده غباء الإعلام، وتؤسس للتخلف والتفاهة لتجعلها عنواناً للإعلام المصري، فتتصدر شاشاته وسهراتهبرامج الفضائح والجن والعفاريت والمتحولين جنسياً والمثليين والإغتصاب والتشهير، وبرامج الخيانة الزوجية وتسويغ متابعة الشباب لأفلام البورنو، ومسابقات الغناء والرقص، بينما تغيب عنها أي برامج هادفة للإعلام والتثقيف والسياسة وصياغة الوعي، وما لم ننتبه نكون علي أعتاب كارثة تحيق بنا، فهذا إعلام يؤخر ولا يقدم، يثير البؤس والشفقة ويلطخ وجه الوطن.
وأحسب أنه واجب الوقت علي الدولة والبرلمان للإسراع بإصدار القوانين المنظمة للإعلان والتنبه لاحتكارات شركات الإعلان المشبوهة والتصدي لمهازل نحن في غني عنها. وأن توضع الضوابط لحمايتنا جميعاً صغاراً وشباناً وكباراً من أولئك الذين عليهم مغادرة الشاشات ليركزوا في إكمال تعليمهم. هذا أو الكارثة، وقانا الله وإياكم وحفظ منها ما تبقي لنا من عقل وفكر وبعض وعي.