يقال أيضا إن الناس في هذا الصباح زحفوا زحفا غير مسبوق إلي حيث الأرصفة المفروش عليها الصحف، لعل وعسي يجدون فيها شيئا منشورا يشفي هذا الشغف السري العارم

كانت سماء المملكة في هذا الصباح بالذات غائمة وقاتمة وثقيلة أكثر كثيرا من المعتاد، حتي لقد شعرت أغلبية السكان الذين يعيشون فيها كمواطنين درجة ثانية (علي الأقل) أنه إنذار سماوي بأن حدثا جللا علي وشك أن يقع.
غير أن نهار اليوم انتصف ثم انسحب تماما مجرجرا معه ما تبقي من ضوئه العليل تاركا الأفق كاملا للعتمة الصريحة، ومع ذلك لم يحدث أي شيء غريب عما تعوده الناس في هذه البلاد من قديم الأزل، وتحديدا منذ أن أقتنعت نسبة معتبرة من السكان أن «طريق المخبرين والمنافقين» هو أقرب السبل للحفاظ علي الوطن من شرور الأفكار والبرامج والآراء والعقائد المختلفة.. كل ما جري أن خلق الله في هذا اليوم بعدما انتهوا من جهاد الخرائب الوطنية الشاملة وعادوا إلي مآويهم الليلية الكئيبة وفتحوا التليفزيونات وعبثوا بالريموتات، وجدوا كل الشاشات مظلمة ظلاما تاما، لم يجرؤ واحد يوحد ربنا أن يسأل قريبا أو صديقا أو جارا عما عساه قد حدث وأظلم الشاشات التي يطل منها يوميا وبانتظام ممل»نجوم المخبرين والمخبرات».
إذن فقد صمت الجميع لكن أغلبهم ربما اعتقد أن مشكلة فنية أصابت تليفزيونه هو فقط بالخرس، فكفا كل منهم علي خبره ماجورا ولم يقل لأحد تحسبا من عقاب قاس لو ثبتت بحقه جريمة الإهمال في صيانة أجهزة التليفزيون وحرمان نفسه من وجبة المخبرين الإلزامية الليلية.
أما المواقع الأليكترونية ووسائل التواصل الإجتماعي السابحة في فضاء الإنترنت، فلم يكن جديدا ألا يستخدمها سكان المملكة في تداول أمر سياسي خطير من هذا النوع، إذ صار من المعلوم بالضرورة من زمان أن هذه المواقع والوسائل مخصصة للفضائح والسخائم والشتائم وقلة الأدب فحسب، أما شئون ومصالح المخبرين العليا (والواطية كذلك) فهي محمية بسياج صارم وترسانة قوية وصلبة قوامها عسس وقوانين ونظم تكنولوجية متقدمة يتسلح بها بلطجية أشداء منظمون جدا و»صاحيين ومفتحين عيونهم» طول الوقت وعلي مدار الساعة.
باختصار، نامت جحافل المساكين وقد طُوّا الجميع ضلوعهم علي تلك الحادثة الشاذة الغريبة، وبقي أغلبهم يتقلبون في الفراش يقاومون من دون فائدة، أرقا ممزوجا بخوف ودهشة عظيمين زاد من ثقلهما الخرس والصمت التام، فلما تآكلت ساعات الليل وبزغ صباح جديد بدا منظره معاكسا تماما لمنظر الصباح السابق، إذ كان رائعا في سمائه التي ارتدت حلة بهيجة رائقة سمحت لأشعة الشمس أن تسطع وتتمدد براحتها وتداعب بدفء رقيق حميم وجوه سكان المملكة، لكن هؤلاء (من باب الاحتياط) قاوموا بقوة مشاعر التفاؤل وعضوا بالنواجز علي الغم والكدر اللذين تعايشوا معهما سنين طالت حتي لم يعد أحد يتذكر عددها كام بالضبط.. المهم، يقول راوي الحكاية إن الملايين من سكان هذه المملكة الضائعة في النسيان، إتصلوا وبحثوا ونقبوا طول النهار عن الفنيين العاملين في إصلاح وصيانة التليفزيونات و»الريسيفرات» وخلافه، غير أنه لم يثبت بأي دليل أن الفنيين هؤلاء ردوا أو ظهر واحد منهم، وهو ما أضاف لغرابة حادثة سواد شاشات المخبرين في الليلة السابقة المزيد من الغموض والإبهام.
ويقال أيضا إن الناس في هذا الصباح زحفوا زحفا غير مسبوق إلي حيث الأرصفة المفروش عليها الصحف، لعل وعسي يجدون فيها شيئا منشورا يشفي هذا الشغف السري العارم المحبوس في الصدور لمعرفة ماذا حدث للمخبرين الليليين المزمنين؟ وما الذي منعهم من الحضور إلي شاشات تليفزيونية تركوها تتمتع بالظلام لأول مرة في حياة جيل كامل علي الأقل؟!
قلة من شعب المملكة هم الذين فازوا بنسخة من أي صحيفة فقد نفدت كلها بسرعة البرق، أما من كان سعيد الحظ والتقط واحدة فلم يجد فيها شيئا سوي أخبار مباحث الآداب المعتادة يوميا، من نوع «إلقاء القبض علي شقيقتين شابتين في أحضان سائح» أتي إلي هذا البلد «تائها» غالبا، أو بلاغ من زوجة تتهم فيه زوجها بـ»إجبارها علي مصافحة شقيقه بينما كفاها عاريان تماما»، فضلا عن فيض جديد من قصص البطولة التي لا يكف أبرز نجوم رجال «الصياعة الوطنية» في مجتمع المملكة عن ارتكابها يوميا وكل ساعة.
أمضي الناس ساعات النهار كيفما اتفق هائمون علي وجوههم في خرائبهم الوطنية، وأخذوا يستحثون ساعات النهار أن ترحل، فلما رحلت وحل الليل هرعوا إلي التليفزيونات وفتحوا، ولدهشتم الشديدة وجدوها جميعا وقد زالت عنها غمة المخبرين الليليين، وصافحت عيونهم وجوها أخري زفت لجموع المشاهدين نبأ: أن «مملكة الخوف والعفن» تقوضت واندحرت، وأن شمس الحرية والكرامة بزغت، كما أن المخبرين ماتوا واندفنوا فعلا.. لكن الراوي يؤكد أن أغلب السكان لم يفرحوا، وأن نسبة ضئيلة منهم اكتفت بابتسامة خجول سرعان ما انقشعت من علي الوجوه.. لماذا؟! لأن التاريخ الطويل علمهم أن خلف كل مخبر يموت، مخبرا جديدا.