استعادت الذاكرة عبارة منقوشة علي تابلوه أتوبيس النقل العام «استخدم الخبير عند بدء المسير»، وكان يقصد حينذاك جامعة القاهرة قبل تخرجه فيها بشهور قليلة،ومنها للعمل بإحدي شركات القطاع الخاص حتي بلغ السن القانوني للتقاعد، وأدهشه ذلك المعاش الهزيل الذي لا يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السائدة في البلاد، علاوة علي غياب ثقافة التقاعد وآلياته الأخلاقية في المجتمع المصري، وشعر بحسرة علي ضياع عائد اقتصادي كبير نتيجة لإهمال هذه الثروة البشرية بين فئة المتقاعدين،والتي يمكن الاستفادة منها في المرحلة التنموية المقبلة.
وتظهر من مراجعة فئات هرم مصر السكاني نافذة ديموجرافية عن تزايد أعداد الشباب والسكان في سن العمل (15-64) مقارنة بمن يعولونهم من الأطفال وكبار السن، وتقدر نسبتها بحوالي 65% من جملة السكان في سنة 2015، وتبقي المشكلة هي كيفية الاستثمار البشري في نواتج هذه النافذة وجعلها هبة لدفع عملية التنمية والقضاء علي الفقر، وأري لتحقيق هذا الحلم القومي عدم إهمال فئة كبار السن (أكثر من 65 سنة) التي تزيد قليلاً علي 4% من جملة السكان، وتضم ما لا يقل عن ثلث هذه النسبة هؤلاء المتقاعدين الذين يمثلون ثروة بشرية تراكمية ومتعددة من النواحي الفكرية والعلمية والعملية والتقنية والتي قد تستثمر لإحداث طفرة تنموية متوازنة في البلاد.
ويظهر التصنيف الحضاري للأمم والشعوب والدول أهمية هذه الفئة المجتمعية الناضجة والرعاية المتكاملة لها وسياسيات الاستفادة منها وتعظيم دورها الثقافي والمعرفي والتقني، حيث يخفض ذلك من التكلفة الكلية للأمراض المرتبطة بمرحلتها العمرية، بفعل سريان هذا الأثر الإيجابي من الأهمية الاجتماعية المستمرة في العطاء والعمل،وقد تبارت كثير من دول العالم في أوروبا والولايات المتحدة وتفوقت فيها اليابان بتعزيز موقف فئة المتقاعدين وانخراطهم بلا حدود في سلك العمل وخدمة المجتمع مع تمتعهم بالرعاية والتقدير، وهناك برامج تدريبية متقدمة تمكن هؤلاء الكبار من نقل خلاصة خبراتهم لفئة الشباب، وليس الإقصاء والعزلة والاستغناء القهري.
ولا شك أنها مرحلة حياة من أجل التجديد وإتاحة المجال للشباب للعمل والابتكار، وتعد بداية الاستمتاع بالمعيشة بلا قيود وظيفية مع اكتمال فرصة العطاء الاختياري، وذلك بعد أن بنيت المؤسسات علي أكتافهم وساهموا في ترسيخ الأمان الاجتماعي والاقتصادي بأوطانهم، وليس علي جميع الأطراف إلا الوفاء بحقوقهم الإلزامية وضمان المعيشة الكريمة لهم.
ويعد كبار السن في اليابان من أكثر شعوب الأرض سعادة في الحياة،من خلال برامج تكاملية للتأهيل والدمج في منظومة العمل والشيخوخة المنتجة،مع توفير أحدث النظم لتلبية البيئة النفسية والاجتماعية المناسبة لهم، وينعكس ذلك علي فئة الشباب أنفسهم بأن الدولة لن تنساهم عند بلوغهم هذه المرحلة العمرية فيطلقون جل طاقاتهم في تنمية وبناء الوطن.
وبهذا نحن نواجه فاقد اقتصادي قومي لا يستهان به، ولا مناص من تفعيل هذه الثروة البشرية المهملة والارتقاء بها ودمجها في منظومة الاستثمار للإنتاج والتطوير، ويتطلب الأمر إنشاء مرصد وطني للمتقاعدين،بإشراف هيئة علمية استشارية متكاملة تضم مختلف التخصصات ذات العلاقة،والبدء في إجراء بحوث معمقة لكشف حجم ومشكلات هذه الفئة، واختيار أنسب وسائل الاستفادة الاقتصادية والتنموية منها،ودراسة تأسيس بنك الضمان الاجتماعي القومي،علاوة علي ترسيخ ثقافة نشر الوعي بمرحلة التقاعد، والاستفادة من تجربة المؤسسة العسكرية،وتقييم وتطوير السياسات الحكومية والاسترشاد بمثيلاتها في الدول العربية وتبادل الخبراتمع الدول الأجنبية لإطلاق برنامج قومي يحاكي البيئة المصرية، وعلي المجلس الرئاسي التخصصي تولي هذه الدراسة القومية للتنمية البشرية وإخراجها إلي حيز التنفيذ.