كان العمل في ردم ترعة المنصورية يصمّ الآذان، فابتسمت بسعادة وقررت حذف بند الغداء، وماذا يهم؟ أليس ردم الترعة مطلبا جوهريا، وعلي أمثالي من الراغبين

في ليلة 4/1، كنت علي موعد في دار «ميريت» للنشر، لإحياء ذكري صديق عمري الشاعر أسامة الدناصوري، وهو، لمن لايعرفه، شاعر مهم من جيل الثمانينيات، أصدر: «حراشف الجهم»، «مثل ذئب أعمي»، «علي هيئة واحد شبهي»، «عين سارحة وعين مندهشة». وقبل موته بأقل من عام كتب:»كلبي الهرم، كلبي الحبيب»، عن رحلته مع مرض «الفشل الكلوي»، وهو ماأودي بحياته عن 47عاما، وأصدرته»ميريت» الداعية للاحتفاء بذكراه. إحياء ذكري صديق تتطلب من محبيه جهدا نفسيا خاصا، لذا هيأت نفسي للذهاب قبل الموعد بساعتين، كانت الشوارع منسابة، علي غير عادة يوم الاثنين، مغسولة بالأمطار، استغرقت من بيتي في هضبة الأهرام، حتي بداية ترعة المنصورية، ربع الساعة (يستغرق الطريق نفسه نصف ساعة علي الأقل)، كان الهدوء مريبا، لكنني أسلمت نفسي للموسيقي في سيارتي، ولشئ من ذكريات الصداقة والشعر مع أسامة، بل إنني خططت (برومانسية شعرية علي الأغلب!) حال وصولي قبل الموعد، أن أتناول غدائي في أحد المطاعم القريبة قبل الأمسية! علي بعد أمتار من مطلع الدائري، بدأت السيارات في التكدس قليلا، لكن لم تكن هناك لافتة إغلاق طريق، أو رجل مرور واحد، كان العمل في ردم ترعة المنصورية يصمّ الآذان، فابتسمت بسعادة وقررت حذف بند الغداء، وماذا يهم؟ أليس ردم الترعة مطلبا جوهريا، وعلي أمثالي من الراغبين بالفعل في إصلاح البلد تحمل تبعاته؟! توقعت أن التكدس بسبب عمل أحد الأوناش علي الطريق، وهو مايحدث عادة، لكنني بعد أن مر مايزيد علي الساعة، وقوفا في عدة أمتار، بدأت أشعر أن شيئا غير مفهوم يحدث، علي يميني كانت عربة كارو تقودها صبية أشارت لي لتقطع الطريق إلي اليسار هربا من الزحام، لكنني أشرت لها بالرفض، لأنني توقعت أن قطعها للطريق بالكارو سيعطله أكثر، سبتني بسباب فاحش وجرت. لايهم، بعد لحظات رأيت السيارات تلوي أعناقها إلي اليسار، كانت هناك «تبة» من الحصي، قرر أحدهم فجأة أن يصعدها ليفر من شئ لم أفهمه ساعتها، في لحظة كانت سيارته مغروسة في الحصي، وهبط آخرون من سياراتهم ليساعدوه علي الخروج، ورغم أن «التبة» بدت عالية جدا، فإن كل السيارات علي يميني قررت أن تحذو حذوه، ومنها أتوبيسان للنقل العام! حوصرنا من الوراء بتكدس السيارات، ومن الأمام بالسيارات القاطعة للطريق، فجأة بدأت بعض السيارات المقتحمة تفشل في صعود التبة، نصفها أعلاها والنصف الآخر يتدلي في الهواء، لم أستطع أن أتخيل المصير الذي ينتظرني وأنا علي بعد أمتار قليلة من السيارات المعلقة، في حال سقوطها فوقنا، وعلي الفور ظهر «المنقذ»، ذلك الرجل الذي تعرفونه جميعا، يهبط من مكان ما ليتولي دور رجل المرور الغائب، يصفر ويشير ويلقي الأوامر علي السائقين، والكل ينصاع له، حشد المنقذ بضعة رجال قاموا برفع الأجزاء الخلفية المتدلية من السيارات وحملوها حملا وسط التشجيع والتصفيق، لتتجاوز التبة،انتاب جنون المغامرة الجميع، كلهم حاولوا صعود التبة، وكلهم استسلموا لذلك الجمع وهو يحمل السيارات»هيلا هوب»، حتي أتوبيس النقل العام، بركابه، ظل ينتظر دوره!كانت النداءات تستحثني علي الصعود،وحولتني النظرات النارية فجأة إلي السبب في «قفل» الطريق! كان علي أن أحتمل موجة أخري من السباب، حتي تحركت السيارات في مسارها الطبيعي ببطء، لنكتشف أن مطلع الدائري مغلق بالكتل الخرسانية، استطاع عاقل أن يقودنا عبر طريق خلفي ترابي مظلم، إلي الدائري أخيرا، حين وصلت بعد ثلاث ساعات، كان المتحدثون يهمسون، والمستمعون يستحثونهم علي رفع أصواتهم، لكننا عرفنا من محمد هاشم، صاحب الدار، أن الأمن صادر «الميكروفون» في اقتحامه للدار منذ أيام! وبقلب ثقيل قرأت ماكتبه أسامة: « بإمكانك أن تراه الآن ساهما/ كمن عرف لتوه الحقائق الكبيرة المخجلة/ كانت الخيانة إذن، ولاتزال/ تُدبر له من أعضائه!