وربما ذلك ينبهنا إلي ضرورة وجود مبادرة تتبناها الرئاسة علي غرار مبادراتها السابقة تستهدف التنمية الاجتماعية.. أو تنمية الإنسان والمواطن المصري ليكون مواطنا عصريا

من الخطأ أن نتسرع في الحكم علي برلماننا الجديد استنادا إلي تصرفات بعض نوابه خلال جلسته الافتتاحية الأولي، والتي كانت أطول جلسة في تاريخ البرلمانات المصرية، ولعلها كذلك في برلمانات العالم كله، فهي بدأت في صباح يوم وانتهت في الساعات الأولي لليوم التالي.. فهذه التصرفات حتي وان بدت أحيانا صارخة أو مزعجة سواء أثناء أداء القسم أو أثناء اجراء انتخابات رئيس المجلس والوكيلين، هي تصرفات كانت متوقعة في إطار تشكيل البرلمان ووجود بعض نواب في هذا التشكيل يبالغون في تقديم ذواتهم! فضلا عن أن هذه التصرفات تعد محدودة بالمقارنة لعدد النواب الكبير الذي يضمه مجلس النواب، والذي زاد عن مساحة القاعة، فتم فتح الشرفات التي كانت مخصصة للصحافة والإعلام والضيوف للنواب ليجلسوا فيها.
وهكذا ان تصرفات بعض النواب في الجلسة الافتتاحية لبرلماننا الجديد حتي وان اثارت انزعاجا أوضيقا حتي نواب آخرين، واتجاهات النواب في أول عملية تصويت داخل البرلمان يقومون بها سواء للرئيس أو الوكيلين، كلها لا تكفي لاصدار حكم متسرع علي هذا البرلمان وعلي أسلوب وطريقة ادائه لمسئولياته ومهامه سواء التشريعية أو الرقابية، خاصة أن نحو 80٪ من أعضاء هذا البرلمان هم نواب لأول مرة، وسوف تتراكم خبراتهم بمرور الوقت جلسة بعد أخري.
لكن قد لانجازف اذا قلنا ان هذا البرلمان سوف يكون صعب المراس.. وهذا ما كشفت عنه الجلسة الافتتاحية.. هو برلمان سوف تتعدد فيه الرؤي والمواقف والآراء إلي درجة التصادم والاختلاف الحاد، في ظل تركيبته حيث يضم بين اعضائه المنتخبين 57٪ نوابا مستقلين، بينما النواب الحزبيون تقتصر نسبتهم علي 43٪ وهؤلاء يمثلون 19 حزبا، وان كانت أكثريتهم في حوزة ثلاثة أحزاب.. كما ان هذا البرلمان يضم نحو ثلث اعضائه من الشباب دون سن 45 عاما.. كذلك يضم عددا كبيرا يفوق الثلثين من النواب الحائزين علي مؤهل عال منهم 40 من حملة الدكتوراه والماجستير.. وفوق ذلك يضم المجلس 75 سيدة.
اذن.. نحن امام برلمان مختلف عن كل البرلمانات التي حظيت بها مصر من قبل منذ ان عرفت الحياة البرلمانية.. برلمان ستكون له حيوية ولن يمر فيه شيء سواء من قبل السلطة التنفيذية أو من حتي لجانه المختلفة بسهولة وبلا نقاش واسع وتنوع ومتعدد وفي الأغلب حاد أيضا.. وهذا ما يمكن استنتاجه من بعض وقائع الجلسة الافتتاحية، التي حاول فيها نواب أداء القسم بطرق خاصة بهم، ولم يقبل جموع النواب.. رأي رئيس المجلس المنتخب بأغلبية الثلثين تأجيل انتخابات الوكيلين، وواجه مرشحو أول واكبر ائتلاف داخله منافسة كبيرة في انتخابات الرئيس والوكيلين حتي من بين نواب اعلنوا انضمامهم لهذا الائتلاف.
وهذا أمر مع ذلك لا يدعو للازعاج أو القلق أو التسرع بوصف هذا البرلمان- كما فعل بعض الزملاء من الصحفيين والإعلاميين- بصفات غير موفقة.. إن برلماننا الجديد يعبر إلي حد ليس بعيد عن واقع المجتمع، رغم ان الذين شاركوا في انتخابه يتجاوزون بقليل ربع عدد المقيدين تلقائيا في جداول الناخبين، ورغم استخدام المال السياسي في بعض وليس كل المواقع اثناء الانتخابات، ورغم ايضا عزوف كثيرين من السياسيين عن المشاركة في هذه الانتخابات كمرشحين، وعدم معرفة قطاع ليس بقليل من الناخبين بالمرشحين واضطرارهم للاختيار العشوائي.
إن مجتمعنا الآن يشهد رؤي ومواقف مختلفة.. ويصل الاختلاف احيانا إلي درجة التصادم وعدم قبول الآخر.. فنحن نتفق في رفض ما لا نريد ولكننا لا نتفق فيما نريد.. والأهم لا نتفق في تقييم ما شهدته البلاد خلال السنوات الخمس السابقة.
.. حالة من عدم الثقة المتبادل حتي بين من تجمعهم بعض الروابط أو يسعون لخلق مثل هذه الروابط لتجمعهم.. وقد شهدنا ذلك بوضوح داخل اول ائتلاف برلماني نشهده، وهو ائتلاف «دعم مصر»، بعد ان شاهدناه بين هذا الائتلاف أو تحديدا بين قيادته وقيادات بعض الاحزاب والقوي السياسية.. فإن بعض رموز هذا الائتلاف خرجوا بعد ان اخفقوا في الحصول علي ترشيحه لهم لمنصب وكيل البرلمان ليطعنوا فيه بذات الأسلوب الذي يطعن فيه الائتلاف الرافضون له من الاحزاب الاخري غير المشاركة فيه.
باختصار.. ان البرلمان الجديد هو مرآة لما يحدث في مجتمعنا، أو هو صورة مصغرة منه بكل ايجابياته وسلبياته، حتي وان كان الذي شارك في انتخابه اكثر قليلا من ربع الناخبين المقيدين تلقائيا في جداول الناخبين.
ولذلك.. فإن ما يحدث في الشارع سوف نجد مثلا أو نموذجا له يحدث أيضا في البرلمان.. سوف نجد مناقشات واسعة وصاخبة بل وحادة.. وسوف نجد غضبا ظاهرا من بعض النواب لا ينجحون في اخفائه أو مداراته أو السيطرة عليه، وسوف نجد تسرعا في اتخاذ مواقف ثم التراجع عنها.. سنجد هذا كله وأكثر.. ولكننا سنجد ايضا توافقا كبيرا في القضايا والامور الوطنية المهمة.. فهذا هو مجتمعنا الآن يتوحد أمام الخطر وفي مواجهة التحدي، ولكنه يختلف واحيانا يتشرذم فيما هو دون ذلك، وينشغل بعض افراده بخلافات وصدامات نستنزف الجهد وتهدر الوقت.
وربما ذلك ينبهنا إلي ضرورة وجود مبادرة تتبناها الرئاسة علي غرار مبادراتها السابقة تستهدف التنمية الاجتماعية.. أو تنمية الإنسان والمواطن المصري ليكون مواطنا عصريا راسخ الهوية، عميق الانتماء الوطني، قادر علي التفاعل الاجتماعي والعمل الجماعي، ومؤمنا بالقيم الايجابية للمجتمع «قيم المواطنة والمساواة والعيش المشترك، واحترام الدستور والقانون والعمل واتقانه، وذلك ليتخلص مجتمعنا من سلبياته ويعزز إيجابيات