راق لي خلال زيارتي الاستشفائية في ألمانيا، أن أمارس عادة القراءة، والتي أحمد الله أن منحني القدرة علي مواصلتها، وكان من بين ما يرافقني من مطبوعات، كتاب العملاق الرائد مصطفي لطفي المنفلوطي « النظرات « الجزء الثاني.. وأعجبتني قصة « زيد وعمرو « وكلنا يعرفهما فهما أشهر اسمين في عالم النحو. يقول المنفلوطي يرحمه الله : أراد داود باشا - أحد وزراء تركيا في العهد القديم - أن يتعلم اللغة العربية، فأحضر أحد علمائه وأخذ يتلقي عنه علومها عهداً طويلاً.
وكانت نتيجة عمله ما سنراه.
سأل داود باشا شيخه يوماً : مالذي جناه عمرو من الذنوب حتي إستحق أن يضربه زيدٌ كل يوم ؟ وهل بلغ عمرو من الذلة والعجز منزلةً من يضعف عن الانتقام لنفسه ؟!
فأجاب الشيخ : ليس هناك ضارب ولا مضروب يامولاي، وإنما المسألة أمثلةٌ يأتي بها النحاة لتقريب القواعد من أذهان المتعلمين. فلم يعجب الباشا هذا الجواب وغضب عليه وأمر بسجنه. ثم أرسل إلي نحوي آخر فسأله كما سأل الأول، فأجاب بمثل جوابه، فسجنه كذلك، ثم مازال يأتي بهم واحداً بعد واحد، حتي امتلأت السجون وأقفرت المدارس، وأصبحت هذه القضية المشئومة الشغل الشاغل عن جميع قضايا الدولة ومصالحها.
ثم بدا له أن يستوفد علماء بغداد. فلما اجتمعوا في حضرة الوزيرأعاد عليهم السؤال بعينه. فأجاب رئيس العلماء : إن الجناية التي جناها عمرو يا مولاي يستحق أن ينال لأجلها من العقوبة أكثر مما نال.
فسأله الباشا مسروراً : ماهي جنايته ؟ فقال له : إن هجم علي اسم مولانا الوزير واغتصب منه «الواو»، فسلط النحويون عليه زيداً يضربه كل يوم جزاء وقاحته وفضوله - وكان كبير العلماء يشير إلي زيادة « واو » عمرو وإسقاط الواو الثانية من « داود ».
فأعجب داود باشا بهذا الجواب كل الإعجاب.. وقال لرئيس العلماء : أنتَ أعلم من أقلته الغبراء وأظلته الخضراء، فاقترح علي ما تشاء. فلم يقترح عليه سوي إطلاق سبيل العلماء المسجونين، فأمر بإطلاقهم، وأنعم عليه وعلي علماء بغداد بالجوائز والصلات.
لقد أحسن داود باشا في الأولي وأساء في الأخري، ولوكنت مكانه لما أطلقت سبيل هؤلاء النحاة من سجنهم حتي آخذ عليهم عهداً وثيقاً أن يتركوا هذه الأمثلة البالية إلي أمثلةٍ جديدة مستطرفة تؤنس نفوس المتعلمين، وتحول بينهم وبين النفور.
وهكذا وكأن المنفلوطي أراد أن يقدم النصح والإرشاد لكل المتعلمين حاثّاً إياهم أن يجددوا من أساليبهم بما يتناسب مع روح العصر حتي في شرح قواعد اللغة التي هي ثابتة لا تتغير، فلا بأس أن تبقي القاعدة ثابتةً، ولامانع أن يتغير الأسلوب وطريقة الوصول إلي المعلومة بشكل لطيف وظريف. ولو ظلّ العلماء يشرحون للباشا دهراً كما فعل من سبقوهم، لما اقتنع داود أبداً.
ويؤكد المنفلوطي هذه الحقيقة قائلاً : لا ينالُ المتعلم حظه من العلم إلا إذا استطاع تطبيقه علي العمل، والانتفاع به في مواضعه ومواطنه التي وُضِع لأجلها. وكان يقصد تلك الصلة بين العلم والعمل.
ورسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، سأل ربَّهُ جلّ في علاه، علماً ينتفعُ به، وأستعاذه من علمٍ لا يُعملُ به. وبنظرةٍ عابرة علي كثير من المناهج واالمقررات في وطننا العربي، نجدها في معظمها من النوع الذي لا ينتفع به، خاصةً بعد أن أمست الوسائل الإلكترونية التي أمست في يد الصغار قبل الكبار في الليل والنهار، مصدراً موثقاً لكل أفرع العلم والمعرفة، وكم سرّني أن أخاطب في الأسبوع الماضي مجموعة من المتدربين والمتدربات الذين نذروا أنفسهم لتلقي العلم النافع والتدرب علي تطبيقه العملي في الحياة. ولفتُّ أنظارهم إلي أن الله تعالي جعل لكل نبي ورسول مهنةً يمارسها بيده حتي غدا شرف العمل ملازماً للرسالات والرسل.
وفي خضم هذا التكدس والتكريس للمناهج الدراسية والتي حنت ظهور أولادنا وهم يحملونها جيئةً وذهاباً، ضاع العلم الذي ينتفع به، وضاعت معه المهن والحرف، وزادت أعداد العاطلين، حتي أصبح لا هم للمتخرجين، سوي البحث عن وظيفة حكومية، تضمن لهم مكاتب جامدة أصبحت متكأً لهم طوال وقت الدوام.
وكم ناديت مراتٍ ومرات، وعقدت الجلسات والندوات من أجل أن توافق مخرجات التعليم سوق العمل. ودعوت الشباب إلي العودة إلي المهن والحرف التي كانت للرسل فخراً قبل أجدادهم، ولكنها الثقافة التي اغتالت فيهم الشجاعة والإقدام والجرأة علي الاقتحام، وهي ثقافة مجتمع عليه أن يؤمن أن صاحب المهنة والحرفة أكثر إنتاجاً وفائدة لكل مجتمع من الموظف الروتيني الذي ينتظر آخر الشهر راتبه الذي قد لايكفيه أحياناً بضعة أسابيع من الشهر