همست في أذنه: «أستاذ محمود أنا معايا مفك في الشنطة»، اضطررت أن أعيد الجملة عدة مرات حتي يستوعب، خاصة أن الوقت لم يكن يسمح بحكي الحكاية، بُهت قائلا:» يانهارك أسود، بيعمل إيه مفك ف الشنطة»؟!

ظل مكتب الرئيس «الفاسد» (بحكم قضاة تنحني لهم الرؤوس احتراما) يرسل لي في التسعينيات دعوات لحضور لقائه السنوي بالمثقفين، في معرض الكتاب، ولأنني كنت أعرف من يمارسون «الحذلقة والفذلكة» من بعض المثقفين، تزلفا وانحناء وأشياء أخري، وأعرف أن لاقضايا حقيقية سيتم مناقشتها، بالإضافة إلي كراهيتي الفطرية للاجتماعات الرسمية، لم أكن أرد علي الدعوة، ولاأذهب بالطبع، مكتفية بالجلوس أمام التليفزيون والتندر- بحرية وأمان- علي مايقال، حتي سئموا مني وكفوا عن إرسال الدعوات فحمدت الله. لكن الأيام لاتتركك دون أن تتورط بشكل ما، ففي ذات مؤتمر كان منعقدا في «المجلس الأعلي للثقافة»، التقيت بأستاذي جابر عصفور( الأمين العام للمجلس آنذاك) وكنت لم أزل طالبة دكتوراه تحت إشرافه، كان المؤتمر قد انتهي وبدأ الاستعداد للذهاب لحفلة ختامه، لم أكن من المدعوين، لكن جابر عصفور، وبأريحية الأستاذ، قال لي: «ياشيخه تعالي معانا» فشعرت بعدم لياقة رد دعوة أستاذي، وقبلت علي مضض من يُدعي:»فوق البيعة».تصورت أن أقصي شخصية سأقابلها هو وزير الثقافة- آنذاك- فاروق حسني، فهيأت نفسي للاختباء بين الجمع. في صباح اليوم نفسه كنت في الجامعة ألقي محاضرة، وفجأة انفلت المسمار الذي يربط عدسة نظارتي بها، وطارت العدسة في الهواء، سري الهرج والمرج بين الطلاب بحثا عن العدسة، تحت الكراسي والبنشات، أخيرا استطاع أحدهم أن يجدها، كنت في شدة الحرج، لكن أحد الطلاب ثبت العدسة مكانها بدقة، وسط ضحكاتنا جميعا، حين عدت إلي البيت لأستعد للذهاب للمؤتمر، كان الخيار صعبا بشراء نظارة جديدة ستضرب المرتب- الذي يكفي بالكاد- في «مقتل»، فقررت أن أضع في حقيبتي «مفكا» صغيرا، حتي أصلحها بنفسي، إذا ماقفزت العدسة في وجه حضور المؤتمر، علي باب أحد القصور الأثرية، حيث أقيم حفل الختام، وقفنا طابورا للتفتيش، لكنني فوجئت بأن الإجراءات شديدة الصرامة، وتنم عن وجود شخصية كبري، أكبر من وزير الثقافة الذي توقعته، كان المثقفون يمرون وتتم إعادتهم عدة مرات علي الأبواب الإلكترونية، وكان الطابور كثيفا وكنت محاصرة في منتصفه، وحين تساءلت عن مبررات الإجراءات القاسية، أخبروني أن السيدة الأولي: سوزان مبارك، تنتظرنا في الداخل، في لحظة برق في ذهني «المفك» في حقيبتي، وأيقنت أنني سأخرج من الباب إلي ماوراء الشمس، لم يكن من الممكن الخروج من الطابور،فخروجي المفاجئ سيلفت الأنظار، وبدا لي أنه من المستحيلات الأربعة إقناع الأمن- إذا استمع لي أصلا- بحكاية النظارة ذات العدسات «القافزة»، تلفت حولي لأبحث عن «منقذ»، ويبدو أن عناية الله ودعوات أمي كانت تحوم في المكان، فمن كان ورائي مباشرة هو أستاذي الجليل، رحمه الله،»محمود أمين العالم»؛ المناضل والمفكر والخبيربأفاعيل الأمن، التفت وهمست في أذنه: «أستاذ محمود أنا معايا مفك في الشنطة»، اضطررت أن أعيد الجملة عدة مرات حتي يستوعب، خاصة أن الوقت لم يكن يسمح بحكي الحكاية، بُهت قائلا:» يانهارك أسود، بيعمل إيه مفك ف الشنطة»؟! مد لي الرجل الجميل يده خلسة والتقط مني المفك، ونادي أحدهم، وبحركة «أكروباتية»، رمي إليه بالمفك، دون كلمة، تنفست أنا وهو الصعداء ونحن نعبر، مبتسمين، متواطئين، الباب الإلكتروني.لاأحكي هذه الحكاية بالطبع، لطرافتها، وإنما كي أضئ جانبا من علاقة المثقفين وسلطة، طالما زعمت، بشعارات جوفاء، تقديرها لهم،كي تخفي كراهيتها واستعلاءها وخوفها منهم، وتأكيدا لانتقاد»عبلة الرويني» في الأخبار (15/يناير) لتصريح وزير الثقافة/ حلمي النمنم: « إن دور سوزان مبارك في الثقافة المصرية لاينكره أحد»، كتبت عبلة:»ولابأس فيما يقوله الوزير، شرط أن يوضح لنا كيف يمكن قراءة الدور الثقافي في ضوء عمليات النهب المنظم باسم الثقافة والسلام والطفولة والإنسانية»! ومع كامل التقدير للوزير، أضم صوتي لصوتها، وأقول: «ياسيادة الوزير، صرنا «اثنتين»،علي أقل تقدير،لا»أحد» فقط»!