العرب منذ القديم أمّة الأخلاق، تلك التي قال عنها المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد بن عبد الله عليه صلوات ربي وملائكته وسلام الناس أجمعين: ( إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ).
وقبل الإسلام وفي الجاهلية رغم ما كان بها من نقائص وأمور ينكرها العقل والفطرة، إلا أنه كان لديهم أخلاق فاضلة محمودة، ولعل من أبرزها :
الكرم، والذي كان مصدر تسابق وتفاخر بينهم، ولربما قالوا فيه وفي أهله نصف أشعارهم.كان العربي في ذلك العهد، يأتيه الضيف وليس عنده من متاع الدنيا إلّا ناقةً، هي كل حياته وحياة أسرته، فيذبحها من أجل ضيفه، ولقد ذبح حاتم طيئ فرسَه والكل يعلم ما تعنيه الفرس والخيل للعربي.. فصار مضرباً للأمثال في الجود والكرم.وكان من نتائج كرمهم تحملهم للديّات الكبيرة، يمنعون بفعلها سفك الدماء، ويحفظون حياة الإنسان.
ومن أنبل أخلاقهم الوفاء بالعهد، لدرجة تفوق كل ما يُعرف اليوم من عهود مكتوبة ومختومة، تقوم بعض الدول بنكثها وعدم الوفاء بها، رغم القوانين والأعراف والمواثيق الدولية. بينما كان العربيُّ حتي في جاهليته الأولي يفتدي عهده بولده ومنازله، والكثيرون يعرفون قصة السموأل ووفائه الذي ضُرِبت به الأمثال فقيل : أوفي من السموأل.
وعزّة النفس وإباء الضيم، والذي ولّد في صدر العربي وبعث في روحه الشجاعة المفرطة وشدّة الغيرة، باذلين أنفسهم وأرواحهم من أجل هذه العزة. والتي كانت أحياناً علي حساب شئ من فضيلة الحلم والأناة، والتي بقيت عند حكمائهم مثاراً للإعجاب والدهشة.ذلك أنهم كانوا قوماً إذا عزموا علي شئ يرون فيه المجد والفخار، لايصرفهم عنه صارفٌ ولا حتي الموت.
وربما يكون لموقع الجزيرة العربية الجغرافي بالنسبة للعالم من حولهم، سبب في اختيارهم لحملِ تكاليف الرسالة الأخيرة، وقيادة الأمة الإنسانية والمجتمع البشري. لأن هذه الأخلاق وإن كان بعضُها يفضِي إلي التهلكة، إلا أنها كانت في جوهرها أخلاقاً ثمينة، تقدر أن تجلب الخير للإنسانية، بعدما تدخلُ عليها الإصلاحات التي جاء بها النبي العربي عليه الصلاة والسلام بأمرٍ من الله فكان رحمةً للعالمين.
ولعل أعظم ما كان عندهم من حزمة الأخلاق هذه، وأكثرها نفعاً، بعد الوفاء بالعهد، هو عزة النفس والمضي في العزائم، فبهما يمكن القضاء علي الشر ومنع الفساد في الأرض، وإرساء قواعد العدل والخير والمساواة بين الناس، بهذه القوة العزيزة وبهذا العزم الأكيد.
وأقول ربما كان لموقع جزيرة العرب، البعيد عن تيارات الحضارات التي لوثتها المصالح وخالطتها المنازعات فنزعت بريقها الأصيل.
واليوم وقد آل حال العرب إلي ما آل إليه، من تنازل عن كثير من هذه الأخلاق المتوارثة والمحسّنة بعد الإسلام. أصبحنا للأسف نضرب المثل بغيرنا، فنقول : موعد إنجليزي، ونمتدح ما في علاقات التاجر الغربي من صدق وأمانة، ونحن نوغل في خلف المواعيد، وفي الإمعان في ضروب الغش، وترويج البائر من السلع علانيةً دون حياء. وضاع ذلك الإرث العظيم، وسط خضم ما يدعونه حضارة ومدنيةً أو تمدناً، وكأن الرقي يبدأ بخلع أثوابنا القديمة والبحث عن أرديةٍ تتيح لنا أن نفعل ما نشاء، وأن نتخلي بإرادتنا أو بالإيعاز عن كل فضيلةٍ كانت للأجداد عزاً وفخراً. وأن نسمح لعلاقاتنا أن تتبعثر حتي في الأسرة الواحدة، فلا يعود الأب هو كبير الأسرة، ويصبح الجدُّ إن كان حياً، مبعثاً للسخرية بدلاً من أن يكون مصدراً للوقار والحكمة.فانقطع التواصل بين الأجيال، وصار من السهل أن يتم التأثير علي الأجيال الجديدة التي فقدت مناعة الانتماء ووأدت فضيلة الوفاء.
ورغم كل ما أنعم الله به علي العرب من نعمٍ وخيرات، وسبلٍ واتصالات، فما زال أكثر ما يغضّون الطرف عنه، ذلك التاريخ العظيم الذي جاء الرسول الأمين ليضع لبِنَتهُ الأخيرة، ليكمل النعمة ويتمَّ الدين. فلم يعد للتاريخ العربي أو الإسلامي إلا سويعات علي الأثير العربي، تُعرض في المناسبات المتفق عليها ولأيام معدودات، ثم يعود زخم الإنتاج الغربي الهائل يحيط بعقولنا، حتي أتلفها، وبأسماعنا حتي أصمّها عما سواه، وبعيوننا يملأها فتناً ومفاسد.
نعم لقد صدقت المقولة المأثورة، لا يصلح حال آخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها.
نسأل الله العودة الحميدة إلي مكارم الأخلاق