مذكرات
زوجة دوستويفسكي كتاب رائع لا أعرف كيف فاتني أن أقرأه من زمان. نشرت له
أخيرا ترجمة مصرية كاملة عن المركز القومي للترجمة. أمضيت معه أسبوعا - 600
صفحة من القطع الكبير - وأدركت إلي أي حد عظيم كانت زوجته أنا جريجوريفنا
دوستويفسكايا وإلي أي حد كبير كانت حياته صعبة فلم يتخلص أبدا من ديونه إلا
قبل موته بسنة تقريبا. ولم يكن له شقة ولا بيت ملكه إلا قبل وفاته بسنة
أيضا. أشياء عظيمة كثيرة في الكتاب عن دوستويفسكي وكفاحه وكفاحها معه هي
التي كانت تصغره بعشرين سنة وآمنت به وبموهبته رغم فقره ومرضه بالصرع.
وأمراض أخري في الصدر أدت لوفاته بعد ذلك. سأترك كل عظيم في الكتاب وأتكلم
هنا عن شيء تافه لكنه أثار انتباهي جدا وهو المؤامرات التي كانت تحاك عليه
من الكتاب الكبار. تورجنيف وأوستروفسكي وغيرهما أو كراهيتهم له. وكيف انتقل
ذلك إلي بعض المدعين من صغار الكتاب. كنت أضحك وأقول في نفسي دا الحكاية
كده من زمان ! أن تكون كاتبا ناجحا يعني أعداء من الكتاب الكبار - بعضهم
طبعا وليس كلهم وخاصة قليلي الموهبة لا أريد أن أقول الأصل - لكن يدهشك أن
ينتقل العداء إلي بعض الصغار الذين لا يفكرون في فارق السن مثلا الذي يجعل
للكبير عشرات الكتب بينما لهم كتاب واحد أو اثنان عادي أو جيد وسط مئات
الكتب الجيدة. هناك بشر جلبوا علي الشر فعلا وللأسف تنصاع قوة الحسد أو
«النق» بالبلدي لهم. أفهم أن يكون الصراع بين أبناء جيل واحد أو متقارب أو
يقف الجيل الأكبر حجر عثرة - فنيا - أمام الأصغر لكن أن يشغل الأصغر نفسه
بحسد الأكبر والنق عليه في المقاهي فسيظل في مكانه لأنه لا يبدع. وأن يقطع
الأكبر أرزاق الأصغر فهذه قذارة. الكبار مع بعضهم يمكن أن تلعب الغيرة
بينهم هذا الدور، رغم أن عظيما مثل يحيي حقي قال إنه لا يشعر أبدا بالغيرة
من كاتب وعلي الكاتب أن يشعر بالأنفة. أي يقرر أن يكتب أحسن. كذلك كان نجيب
محفوظ. جيل الليبرالية المصرية كله تقريبا. الأمر اختلف حقا بعد ثورة
يوليو 1952 حين صار للثقافة وعاء مركزي هو وزراة الثقافة في نهاية
الخمسينات. جيل الليبرالية المصرية الذي تعلم أيام الملكية كان صدره أكثر
اتساعا ومعاركه حول الفكرة أو قيمة العمل ولا تصل إلي قطع الأرزاق كما فعل
ويفعل كثيرون ممن جاءوا بعد ذلك لأنهم صاروا متمكنين في الأجهزة الثقافية
بحكم وظائفهم أكثر مما هو بحكم قيمتهم. بل ازدادت قيمتهم بسبب هذه الوظائف
ولا أريد أن أقول بعض الأجهزة. كل ذلك مؤقت وعابر والكاتب الموهوب عليه
بالصمت والنشر إن لم يكن هنا ففي العالم إمكانيات كبيرة للتحقق. الحياة
الثقافية ليست مقاهي الأدباء فقط لكنها قرّاء لا تعرفهم. لذلك لم أندهش
أبدا من كم العداوة الذي قابلته من بعض من يسمونهم كبارا ولم أعاتبهم أبدا.
وفي يوم قررت أكتب مذكراتي ثم مزقتها بعد عشر صفحات. قلت لنفسي لماذا
أتذكر القذارات. لكن يدهشني جدا أن يخوض في سيرة كاتب كبير كاتب مبتدئ علي
المقاهي وفي الجلسات الأدبية ويعد عليه ما يكسبه بعد عمر طويل من الشقاء
بينما هو أقل منه عمرا بعشرين أو ثلاثين سنة. يعني يمكن أن يحقق ما حققه
الأكبر الذي عادة لا يحقق إلا الستر أمام ما يحققه اللصوص الآن ! الحقيقة
هؤلاء يستحقون الرثاء وتظل الظاهرة غريبة جدا. لماذا والأدباء والفنانون
يمارسون أسمي الأنشطة الأدبية والفنية يكون لبعضهم هذه الخصال الفجة؟.
ولماذا الأمر قديم هكذا منذ زمن دوستويفسكي الذي أفقروه بالمؤامرات؟.