فالملائكة هنا لا تتنزل علي الأنبياء والمرسلين فحسب، إنما تتنزل علي عباد الله الصالحين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
هل يستطيع كل واحد منا أن يقف مع نفسه للحظات، ليسأل نفسه ماذا قدم لوطنه؟ وماذا قدم للقاء ربه؟ وما آخر الطريق الذي يريد الوصول إليه؟ وماذا عن راحة ضميره في كل ما قدم ويقدم؟ لقد سأل رجل النبي (صلي الله عليه وسلم) متي الساعة؟ فقال له (صلي الله عليه وسلم): "ماذا أعددت لها؟ " فقال الرجل: حب الله ورسوله، فقال له النبي (صلي الله عليه وسلم): " أنت مع من أحببت"، وهل سيقول الإنسان- وعن قناعة تامة- لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لسلكت- وعن راحة ضمير- الطريق نفسه، أو أنه يتمني أن لو كان قد سلك طريقًا آخر، وإذا كان العقلاء يؤكدون أن الرجوع إلي الحق خير من التمادي في الباطل، فيمكن لكل عاقل أن يثوب إلي طريق الرشاد بلا تردد أو توجس ما دام يوقن أنه سبيل الرشاد، فاليوم سبيل العمل، وغدًا يوم الحساب حيث يقال: "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ" (الصافات :24)، فالخلق جميعًا بين فريقين لا ثالث لهما " فَرِيقاً هَدَي وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ " (الأعراف :30)، فريق في الجنة وآخر في السعير، " فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ " (هود : 106-108)، يذكرنا القرآن الكريم بحال كلا الفريقين، فيقول الحق سبحانه :"إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ " (فصلت 30-32).
فالملائكة هنا لا تتنزل علي الأنبياء والمرسلين فحسب، إنما تتنزل علي عباد الله الصالحين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، لكن متي تتنزل؟ وكيف تتنزل؟ أما الكيفية فعلمها مفوض إلي رب السموات والأرض رب العرش العظيم، ولكن متي تتنزل؟ فأكثر أهل العلم علي أنها تنزل علي المؤمن ساعة الاحتضار لتطمئنه قائلة: لا تخف يا عبد الله ولا تحزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد،" نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ" (فصلت :31) أما يوم المحشر فكما تحدث القرآن الكريم في أواخر سورة الأنبياء " وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ" (الأنبياء :103)، وأما في الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب " سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَي الدَّارِ " (الرعد :24)، " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ "(الحاقة :24) " وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ " (فصلت :31)" كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " (البقرة :25)" وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً " (الإنسان :19-20) أعد الله عز وجل لهم فيها "مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر "، ونزع الله عز وجل من بينهم الغل والحسد " وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَي سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ" (الحجر :47).
أما علي الجانب الآخر والعياذ بالله فهناك من شُغل عن الله (عز وجل) بماله، أو بجاهه، أو بسلطانه، أو بتجارته، أو بجماعته، وفصيله، وهناك " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " (عبس : 34-37) " يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلا مَنْ أَتَي اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " (الشعراء 88 - 89) " يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ " (لقمان : 33) يومها يندم الخاسرون حيث لا ينفع الندم، يقول كل من يأخذ كتابه بشماله " يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ، مَا أَغْنَي عَنِّي مَالِيهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ ، إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ "(الحاقة : 25-32)، وسيقال له عند انصراف آخر قدم مودع : يابن آدم جاءوا ودفنوك، وفي التراب وضعوك، وعادوا وتركوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت.
فنحن بين سبيلين بيّنهما الحق سبحانه وتعالي في مواضع عديدة من كتابه تعالي، منها قوله تعالي : "مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَي لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً" (الإسراء 18-19)، فالآخرة تحتاج إلي سعي هو سعيها الموصول إلي مرضاة الله فيها، سعي المؤمن بها المعدُّ لها، وهذا هو السعي المشكور، أما الفريق الآخر فحتفه جهنم يلقاها مذمومًا مدحورًا، ويقول سبحانه: " فَأَمَّا مَن أَعْطَي وَاتَّقَي ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَي ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَي ، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَي ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَي ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَي " (الليل: 5-10)، فالعاقل من يعمل لدنياه كأنما يعيش أبدًا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا، من منطلق قوله تعالي : «... وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ...» (القصص :77).