حالات كثيرة قال البرلمان لا. قالها لقانون سنَّته الحكومة ونفذته منذ مارس الماضي. وأصر علي لا هذه رغم امتداد الجلسة لما بعد منتصف الليل
لكل برلمان شرعيته. وهذه الشرعية تعني الكلمة الأولي في السطر الأول من الصفحة الأولي من تاريخه. وأتصور - وهذا تصوري وحدي - أن اللحظة التي رفض فيها البرلمان قانون الخدمة المدنية كانت لحظة شرعيته الأولي التي ستصبح بداية تأسيسه لتاريخه الذي يستكمل فيه التقاليد البرلمانية التي عرفتها مصر في وقت لم يكن يعرف البرلمان فيه سوي عدد قليل ومحدود من دول العالم.
قبل أن أجلس في الجلسة الطويلة التي خصصت لمناقشة قانون الخدمة المدنية وتعدت الساعات الخمس. كانت لديَّ فكرة عن عيوب وسواءات وعوار هذا القانون. عرفتها عندما احتل عدد كبير من الموظفين سلالم نقابة الصحفيين - هايد بارك مصر الآن - لفترة طويلة. وتعاطف معهم خلال هذه الوقفات أعداد هائلة من المصريين أحاطت بهم من كل جانب. وحمتهم من أي محاولة لإنهاء اعتصامهم.
قيل لنا من مندوب الحكومة علي سبيل التخويف أو صناعة فزاعة أمام أعيننا تمنعنا من التفكير السليم أن إلغاء هذا القانون سيعني أن 6.5 مليون مصري يعملون في الحكومة لن يستطيعوا صرف مرتبات شهر يناير التي تستحق في أول فبراير. لأن القانون الذي كان سائدًا قبل قانون الخدمة المدنية لن يعود للعمل به. فالقانون الذي يستبدل بقانون لا يمكن استعادته مرة أخري بعد سقوط القانون الجديد.
ورغم تكرار عملية التصويت وأغلبية في حب مصر التي يقولون إنها كاسحة مكتسحة. إلا أن نتائج التصويت جاءت في جميع المرات رافضة لهذا القانون. وبذلك سطَّر البرلمان شرعيته الأولي باعتباره رقيبًا علي الحكومة وعلي أدائها ومصنعًا للقوانين التي تشرع للصالح الوطني العام بعيدًا عن هذه الفئة أو تلك.
يقول لنا التاريخ إنه في سنة 1866 كان افتتاح أول برلمان في تاريخ مصر. في وقت لم تكن تعرف الدنيا برلمانات فيه. ربما باستثناء البرلمان الفرنسي. ويوم الافتتاح وقبل دخول جناب الخديوي إسماعيل لافتتاح البرلمان - وكان هو صاحب فكرة إنشاء البرلمان من الأصل والأساس - قبل دخول الخديوي أطلَّ علي أعضاء البرلمان أحد مسئولي المراسم.
قال للأعضاء وكان عددهم 75 عضوًا: يا حضرات المشايخ الأفاضل والعلماء الكرام. من يريد أن يوافق علي ما تفعله الحكومة يجلس ناحية اليمين. ومن يريد أن يرفض ما تفعله الحكومة يجلس ناحية اليسار. فما كان من الجلوس إلا أن اتجهوا جميعًا إلي ناحية اليمين خوفًا من أن يتهموا بأنهم يجلسون في اليسار. وهذا معناه أنهم سيعارضون قرارات الحكومة.
باقي القصة تقول إن الخديوي عندما دخل البرلمان ليلقي خطبة الافتتاح التي كانت تسمي خطبة العرش. وقبل أن يلقيها تساءل عن السبب في أن الجميع يجلسون ناحية واحدة. وأن الناحية الثانية خالية من السادة النواب الأفاضل. وعندما عرف السبب ضحك ضحكته المجلجلة وقال: ليجلس السادة النواب في أي مكان يشاءون اليمين أو اليسار أو الوسط.
لا يهمني المكان - أكمل الخديوي - الذي يجلسون فيه. ولكن يهمني فقط أن يؤيدوا الحكومة عند التصويت علي أي إجراء تتخذه. ربما أصبحت هذه قاعدة تاريخية للبرلمانات في وطننا العربي. فالجميع يفعل ما تفعله مصر. ويتصرف كما تتصرف مصر.
لكن في حالات كثيرة قال البرلمان لا. قالها لقانون سنَّته الحكومة ونفذته منذ مارس الماضي. وأصر علي لا هذه رغم امتداد الجلسة لما بعد منتصف الليل. لأن عينه كانت علي صالح الوطن ومصلحة المواطنين. بصرف النظر عن أي إرضاءات أو إملاءات.
إجراء آخر اتخذه الدكتور علي عبد العال رئيس البرلمان يؤسس لبرلمان جديد تستحقه مصر الجديدة. عندما اعترضت بعض الجهات علي عدد من الزملاء الصحفيين الذين يقومون بتغطية أعمال البرلمان. وعندما علم الدكتور علي عبد العال من نقيب الصحفيين يحيي قلاش بهذه الواقعة.
كان موقف رئيس البرلمان واضحًا ومحددًا وهو عودة جميع الصحفيين لممارسة عملهم بعيدًا عن أي جهة أمنية أو غير أمنية يمكن أن تكون قد أوصت باستبعاد هذا الصحفي أو ذاك. وقال إن تغطية أعمال البرلمان بشفافية مطلقة حق مقدس لكل صحفي. وعاد الجميع لممارسة عمله الإعلامي بحرية مطلقة.
استقلال البرلمان كسلطة تشريعية ليس حبرًا علي ورق. ولا كلامًا يقال. ولكنه أفعال يجب الإقدام عليها والتمسك بها واعتبارها تعبيرًا عن شرف البرلمان وشرعيته وممارسته لسلطاته التي كفلها له الدستور.
الأسبوع الماضي قال البرلمان لا لقانون الخدمة المدنية. وقال رئيس البرلمان لا لاستبعاد الصحفيين لأسباب أمنية. وكل من التصرفين يؤكدان أننا أمام برلمانٍ يضع قدمه علي أول طريق جديد. لا أقول لم يحدث من قبل. ولكنه مغاير ومختلف عما كان سائدًا من قبل.