نعم قد يكون قانون الخدمة المدنية متجاوزا ومغاليا في خطوات تنفيذه. وهو ما أدي إلي تكتل المضارين ومعهم كثيرون وقعوا فريسة عدم فهمهم لما يستهدفه هذا القانون - التخوف- دفعهم للتكتل والمشاركة في الدعوة إلي رفضه. هذا المناخ ترتب عليه وجود رأي عام معارض للقانون امتدت آثاره إلي الأغلبية في مجلس النواب التي صوتت بالرفض مما أدي إلي وقف القانون.
ليس من تفسير لما حدث سوي انه قصور من جانب الدولة ممثلة في الحكومة التي تبنت إصدار هذا القانون متضمنا بنودا متطرفة. كان من الممكن تطبيق القانون علي مراحل يتم التمهيد لها حتي لا تؤدي إلي تعميم الخوف علي جميع العاملين في أجهزة الدولة. هذه الأخطاء يتحملها الذين كانوا وراء وضع مواد وبنود هذا القانون الذي قد يكون قد جري بحسن نية. ما حدث افتقد للحوار المجتمعي وحسن التقدير لرد الفعل الذي يعد أمرا طبيعيا في نظام وظيفي ترسخت أخطاؤه علي مدي سنوات وسنوات.
في هذا الشأن فإنه لا يمكن تبرئة النظم الحاكمة المتتالية.. بداية بثورة يوليو ١٩٥٢ حيث تركز التوظيف بعد قيامها علي الوظيفة «الميري». هذه المسئولية تقع علي عاتق هذه الدولة بعد تأميم المنشآت الخاصة بشكل عشوائي شمل علي سبيل المثال مطاعم الفول والطعمية. هذه السياسات الخاطئة كان سببها الضغوط الانفعالية والنفسية الناتجة عن ماضي سيطرة رأس المال والاقطاع علي الحياة المعيشية للمصريين المتطلعين لتحسين ظروف حياتهم المعيشية. ان تفعيل هذه السياسات جري بعدم حرفية ودون مراعاة لتداعياتها المستقبلية. كان من نتيجة ذلك ارتفاع أعداد العاملين في الدولة والاجهزة التابعة لها إلي ٧ ملايين عامل وموظف مما تعد ارقام في غاية المبالغة والخطورة.
ليس أدل علي هذه الحقيقة المؤلمة مما تعرض له الرئيس الأسبق مبارك خلال زيارة قام بها إلي تركيا. انه وعلي ضوء معاناة الدولة المصرية من عبء هذه الملايين من جيش العمال والموظفين سأل مبارك الرئيس التركي عن عدد الموظفين الحكوميين في تركيا التي يقترب عدد سكانها من سكان مصر. كانت الصدمة ثقيلة عندما قال له الرئيس التركي انهم في حدود ٤٠٠ ألف موظف وعامل.
تواصلا لهذا الحديث الدائر في هذه المباحثات سأل الرئيس التركي الرئيس المصري عن عدد العاملين بالحكومة المصرية. درءا للإحراج تهرب مبارك من الاجابة الصحيحة بقوله وهو يحاول دعم اجابته بحركات من يديه دون أن يذكر الرقم الصحيح..انهم يعني في حدود هذا العدد التركي!!
الشيء المؤكد الذي يجب ان يعلمه الرافضون للقانون من أعضاء مجلس النواب انه قد تم عرض القانون عليهم وهم في بداية تجربتهم التشريعية. كان ذلك مبررا لهم للجنوح إلي إرضاء الرأي العام تجاه ما يمكن أن يصاحب تطبيق القانون من مساس بدخول قطاع من الموظفين. هذا التوجه يعكس عدم إدراكهم خطورة تضخم جهاز الحكومة بالموظفين.
إن أداء الخدمات المطلوبة يمكن تأديتها علي أحسن وجه بـ١٠٪ أو ١٥٪ من عدد العامين به حاليا. في هذا الإطار فإن العمل الذي يمكن أن يؤديه موظف واحد تحكمه قوانين مناسبة وحازمة وأجر يغطي احتياجاته المعيشية يقوم به حاليا ١٠ أو ١٥ موظفا. إنهم إلي جانب ذلك يتقاضون أجورا متدنية تجعلهم يضطرون إلي ممارسة الفساد والاضرار بمصالح الدولة من خلال الحصول علي الرشاوي إلي جانب التباري في تعطيل إنهاء ما هو مطلوب منهم من أعمال.
من المؤكد ان تصويب قانون الخدمة الوظيفية في مصر يدخل ضمن الحزمة المطلوبة من الاجراءات لتحقيق الاصلاح الاقتصادي الشامل للدولة المصرية. التوصل الي صيغة لهذه المنظومة يحتم انهاء السطوة الوظيفية الميري وما خلفته من تخلف في اداء الخدمات لصالح تغول ظاهرة الفساد والمفسدين.