رحلة رشيد غلام كما افترضت في المقال السابق ترد علي سلبية معظم الفنانين العرب، وانضواء كثير منهم تحت لواء الأنظمة الحاكمة. لكن رحلته تشير أيضا إلي أن اختياره الإيجابي محفوف بالمخاطر، ليس في احتمالات الترهيب والأذي أو انقلاب موقف الفنان تراجعا ونكوصا.. ولكن أيضا ما يجري من خلط للأوراق أمامه وسط فوضي فكرية هائلة يسهل معها الخداع والتضليل.. فيضل المرء طريقه الصحيح إلي رسالته.. وقد يقع في التناقض مع نفسه.. ويسمح بذلك للمتربصين به، بالطعن في مصداقيته وامكانية التشويه أو التشكيك. وتلك هي صعوبة هذا الاختيار- لا تنفي نبله- لكنه الوضع المعقد في واقعنا العربي خاصة في الفترة الاخيرة واحداثها المزلزلة والتي ساهم في صنعها عرب وعجم.. اطراف عدة بكل أساليب الكذب والتضليل، وانظر كيف نجحت داعش بإعلامها في اجتذاب أعداد من الشباب منهم شباب من الغرب!
- بدأت رحلة رشيد الحقيقية بزخم كبير في التواجد بين الناس والانتشار.. حتي ترددت اصداء موهبته الكبيرة في ارجاء المغرب وصار ظاهرة. كما يحكي أحد اصدقائه.. وهو ما ادي إلي بداية الصدام بالواقع. فقد أدي التفاف الناس بشكل واسع حول رشيد واختياره للمعاني الإنسانية التي ترقي بالوجدان والوعي إذ تحرض المتلقي علي الاحساس بقيمته وكرامته كما تفجر الاحساس بالحرية والحق والجمال.. أدي ذلك إلي تنبه رجال السلطة إليه وإلي ما يقلق في تأثيره الواسع علي الناس فأ سرعوا في محاولة قوية لاستقطابه واستغلال التفاف الناس حوله وقوة تأثيره لخدمة النظام الحاكم بما يريد تأكيده لدي الناس.
وهنا يمر رشيد غلام بمرحلة صعبة ما بين الترغيب والترهيب لاخضاعه.. أما الترغيب فكان بمغريات كثيرة تسمح له بمكان ومكانة وسط كوكبة السطلة الحاكمة.. وحين بدا استحالة استجابته لذلك.. كان الترهيب بالايذاء الذي قد يصل إلي الحبس ومنعه من الغناء أو الانشاد.. ولم يخضع رشيد للترغيب ولا للترهيب وتمسك بغنم الذي اختاره وانتمائه لحرية الابداع وحرية للناس ورفضه لخدمة السلطة والسلطان وخرج من التجربة اكثر تماسكا واكثر صلابة، ووقتها كان العالم العربي يدخل في نفق ازدياد التمزق والخلاف بين الانظمة الحاكمة مما ساعد الغرب علي اختراقه واحكام التآمر عليه- والصورة الرهيبة في المشهد العربي الآن كانت نتاجا لذلك المهم مع بداية ذلك انطلق رشيد إلي الخارج بكل موهبته المتأججة وما تحمله من رسائل نبيلة وان جاء عداؤه للاستبداد أشد رسائله سخونة وكأنها ثار شخصي حيث نزل إلي الناس في كل العواصم العربية بل توجه أيضا إلي الجاليات العربية في أوروبا.
ونبدأ متابعة رحلة رشيد غلام بدءا من لقاءاته في مصر- رغم تنقله قبلها بين عواصم أخري.
كان لقاؤه علي القناة الأولي بالتليفزيون المصري.. وكنا في نهايات حكم الإخوان.. ولذا تمت دعوته مع الاحتفال بالمولد النبوي كمنشد ديني وحسب وتجاهل تاريخه الفني الحقيقي وموقفه السياسي في بلده. وقد بادر رشيد بتصحيح ما يخص فنه.. فأكد أنه لا يغني فقط للمشاعر الدينية مع تقديسها، بل يغني لكل ما يحسه من المعاني النبيلة والمشاعر الإنسانية، أي أنه فنان وبالمعني الواسع والصحيح ثم دافع عن الفن عامة وعن الموسيقي والغناء ونفي تعارضهما مع الدين الذي درسه، ورغم ذلك فبعد انقضاء حكم الإخوان بإرادة شعبية إيا ما كان ما بعدها.. فإن تعاطفه معهم غير مفهوم! ذلك عداءه للأنظمة المستبدة.. والذي انسحب علي كل الانظمة. وانا مع رفض الاستبداد وغياب الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي- لكني اسأل ألا يعتبر حكم الإخوان اسوأ أشكال الاستبداد، اذ كان حكما لا يعترف بوطن ويسعي لفرض ما يريد بشكل فاشي علي الجميع باعتباره وصيا علي الدين الإسلامي.. بل إن أي تحليل منصف يري أن هذا الفكر الفاشي والفكر الوهابي.. خلف ما انتهت إليه الحال العربية من تمزق وعنف مخيف يقتل فيه للأخ أخاه وتتمزق معه البلدان بكل ما يحدث من فصائل تدعي الإسلام الصحيح وهي أداة للغرب فيما تمارسه من سفك الدماء والخراب لتحقيق هذا النزيف المهلك وللتمزق لصالح هذا الغرب ومصالحه!.. وفي النهاية كيف لم ير.. أن هذا الشعب الذي خلع مبارك في ٢٥ يناير ثم خلع حكم الإخوان حين أحس بحتمية ذلك.. قادر علي تصحيح أي وضع آخر يمثل خطرا اكيدا علي وجوده. واذكر هذا الفنان الكبير بما جاء علي لسانه في أكثر من لقاء وعلي لسان من دعاه للعودة إلي الفناء الداعية عبدالسلام محيسين- بدعوة رشيد إلي أن يسخر الفن في تحرير الإنسان.. واحترام النفس الإنسانية أمام مهانات شتي تحط من قدرها وتكريم الإله لها. وهذا لا ينفي نبل رشيد غلام وعظمة فنه بصوت فريد وعقل نبيل.. وإن جانبه التقدير الصحيح- ليس لمصلحة له- بل لقوة الخداع والتضليل بالداخل والخارج في هذه المرحلة المعقدة.
انتقل إلي لقاء آخر.. في إطار دور عظيم تقوم به الفنانة «أصالة نصري»، حين استضافت رشيد لأربع حلقات في برنامجها الموسيقي.. أربع حلقات تفيض جمالا وصدقا وفنا خالصا راقيا.. لا يفسده أي تداخل مع الواقع المعقد الذي أربك بعض خطوات رشيد في رحلته التي مازالت مستمرة تشع اشراقات روحية لدي جمهوره.
تعاملت «أصالة نصري»، مع رشيد كموهبة استثنائية تستحق الاحتفاء والتأمل وهي التي اخذت علي عاتقها أن تحتفي بكل المواهب العربية التي تعلي من شأن هذا الفن وقدر ذا صانعيه. وتؤصل لهذا الفن بضيوف مختارين بعناية مشاركة لهم بذكاء دوعي حيث يتبدي لنا في لقاءات رشيد وجهه الحقيقي.. دون زلل. ليكون الفنان ذو الرسالة الانسانية دون خضوع لاي انتماء ضيق أو مغرض.. بل انتماء واسع وعميق للقيم العليا.. كرامة الإنسان وحريته في مقدمة منظومتها.. السماوية والوضعية.