لقد خفتت ومضة من ومضات التاريخ المصري الحديث، وعزاؤنا أن مصر ولادة بأبنائها ورجالها وهذا قدرها، ولا يعني هذا ألا نحزن علي استاذ علم الاجيال فتتلمذ علي يديه اساطين الصحافة في مصر، وشارك في العمل التنفيذي بكل نبضة من نبضات قلبه وفي احلك الظروف وله في مصر ولكل قارئ دين بالدعاء له بالمغفرة بقدر علمه وبقدر ما علمنا، طاب حيا وطاب ميتا والعزاء لكل مصر ولكل وطن عربي سانده الاستاذ هيكل في صنع مستقبله وتاريخه.
هيكل ذلك اللغز القائم من زمن بعيد.. استاذ الصحافة بل الظاهرة المعقدة التي من الصعب أن تحدد لها موقعا محددا في مجالات السياسة أو الصحافة وكتابة التاريخ وغيرها.
هيكل المحظوظ الذي عاصر عصرين، عصر يغرب وآخر يخرج إلي الوجود.. عاصر نهايات زمن مصر الملكية وانبثاق ثورة يوليو، عرف جمال عبدالناصر والثورة مجرد حلم في رأسه وإن كانت معرفته بعبدالناصر تسجل في بند حظوظه فإن عبدالناصر كان محظوظا بوجود عقل هيكل في اقرب مسافة من عقله ووجدانه.
جلست علي مقعد الاستاذ هيكل رئيس تحرير مجلة آخر ساعة كبري المجلات المصورة في الشرق الأوسط.. وخرجت بيقين اكيد ان هناك من يكتسبون قيمتهم من المقاعد التي يجلسون عليها، فإذا فارقوها طواهم النسيان مهما طالت مدة بقائهم، وهناك من تكتسب بهم المقاعد قيمة ومكانة فإذا غادروها ظلت قيمتهم باقية بل ازدادت رسوخا وتوهجا بالتحلل من قيود المنصب وهذا ما انطبق علي استاذنا الكبير هيكل.
اكتسبت من عملي في اخر ساعة ومن الثوابت التي وضعها الاستاذ هيكل وهي ثوابت العمل الصحفي المصداقية والقرب من نبض الشارع وعدم امساك العصا من المنتصف، وعدم المهادنة في حق الوطن والشعب وعدم الانحدار الي منزلق الهبوط في لغة الخطاب، وعدم المساومة مع إرهاب الفكر أو فكر الإرهاب وان تكون الصحافة منبرا لكل الآراء وراية للحرية ومشعلا للتنوير، والدفاع عن قضايا الوطن والأمة.. مدافعة عن قيم العدل والمساواة والديمقراطية، متصدية لكل محاولات طمس هوية الأمة أو «لي ذراع» ارادتها أو الوصاية السياسية في قوالب فكرية مستوردة سابقة التجهيز. هذا هو ما تعلمته من استاذي هيكل الذي جلست علي مقعده في رئاسة تحرير مجلة آخر ساعة.. وتلك تعاليم وميثاق شرف حقيقي تعلمته من خبرات الاستاذ واساتذة عظام في مجال الصحافة تعلمت منهم وشرفت بالتتلمذ علي ايديهم والنهل من خبراتهم وتجاربهم العريضة في مقدمتهم عميد مدرسة أخبار اليوم الصحفية مصطفي أمين والعملاق موسي صبري النزيه الشريف والفارس النبيل سعيد سنبل وعاشق الأخبار أحمد زين. تعلمت ما تحتاج إليه الاجيال الحالية في الصحافة لنجدد معا تلك المعاني التي نحن في اشد الحاجة إليها.
والكاتب لا يموت وستبقي كلماته لاجيال قادمة نبراسا وتاريخا وتأريخا لحقبة عصيبة وانتصارات باهرة عاشها الرجل محللا وممارسا لاحداثها وستبقي العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط وحرب السويس وحرب ١٩٧٣ والعربي التائه علامات مضيئة لأي باحث ولمن يريد أن ينهل أو يقترب من احداث الشرق الأوسط وستظل مصر منارة لكل العالم بشعبها ورجالها يعتزون ويحزنون بمن فارقهم ولكنهم ايضا مؤمنون ومحتسبون لقضاء الله وقدره.. رحم الله معلم الاجيال واستاذ الصحافة المصرية.