مدارات

مَنْ جَدَّ وجد

رجائى عطية
رجائى عطية

  لا يولد أحد ومعه أفكار . بل يولد ومعه استعداد للانتفاع بها ونقلها وتطويرها على درجات مختلفة فى هذا الاستعداد، واختلاف درجات هذا الاستعداد ملحوظ فى كل جماعة بشرية كانت أوتكون، وإليه يرجع فى الغالبية وجود الكتل ككتل وهبوط مستواها الفكرى بالقياس إلى سواها من الطبقات فى أى جماعة كانت أوتكون !
 وكل مولود يلتقط منذ أن يولد ما ينفعه من الأفكار الجارية فى محيطه الذى يتسع باستمرار وعلى قدر ما يهيئه ذلك المحيط ويسمح به، لأن المحيط هوأساسا خزانة الأفكار . وحياة الأفكار هى حياتها ووجودها فى محيط . إذ هى لا شىء إلاّ اكتتاب فى رأس المال العام الفكرى من هذا أوذاك خلال انتفاعه بما يلتقطه من الأفكار الجارية فى محيطه وأياً كان هذا الانتفاع توكيداً أوتطويراً أوتنفيذاً أوتعديلاً أوإلغاءً ..  بناء أوهدماً تقدماً أوتأخراً .. صواباً أوخطأً، صدقاً أوكذباً، حلالاً أوحراماً، ذكاءً أوغباءً، علماً أوخرافة !!
 وقد يبدومن الرضيع أوالصبى أنه يأخذ ولا يعطى، لكنه بوجوده والتفات الكبار إليه يكتتب ــــ فى رأس المال العام الفكرى، ثم لا يلبث أن يشب ويحاول بدوره أن يفكر مستعملاً ما التقطه وعالجه أوعامله فى استخدامه وتجاربه وفهمه .. ويعرض ذلك على من حوله مدفوعاً بالخاصية الأساسية للأفكار وهى حرصها على الانتشار والإذاعة أى على ملء خزانة المحيط.
 وفيما يبدوأن الاستعداد الذى يولد مع الآدمى لالتقاط الأفكار والانتفاع بها وتطويرها ـــ ليس استعدادًا ثابتًا .. إذ ليس فى حياة الأحياء شىء  ثابت . ولا أعرف شخصيا إن كان هذا الاستعداد قد أخضع لقياس ما كما أخضع الذكاء أوالغذاء الكافى أومعدل الأعمار
أوالاستعداد لبعض الأمراض . فالحديث عنه ما زال حديثاً عاماً غامضاً قليل الجدوى والنفع لواقع الآدمى .
ولكن ربما كان من الخير أن نلتفت إلى وجود ذلك الاستعداد، وأنه وجود لإمكانيةٍ فقط من إمكانيات الحياة الآدمية يحتاج تحققها إلى الوجود فى محيط كافٍ لوقت كافٍ يسمح بالاستمرار والنمووالتطور بعد خروج من الرحم إلى العالم الذى تستعمل فيه الحواس ويتبادل فيه الآدمى مع محيطه الأخذ والعطاء إلى آخر عمره ويترك فى محيطه بعد أن يغادره أشياء اكتتب بها وانضافت دون أن يشعر فى الغالب ـ إلى رأس المال العام الفكرى فى مجتمعه .
لذلك ينبغى حين نحتفى بالأصالة والإبداع والنبوغ والعبقرية وسعة العلم وفيض الحكمة وندرة الذكاء واجتماع الكفايات ـ أن نتنبه إلى أننا إنما نصف درجات فى ذلك الاستعداد لالتقاط الأفكار والانتفاع بها وتطويرها وأننا جميعاً نسقى من ماء واحد ويختلف بعضنا عن بعض فى الأكل وأننا جميعًا أحياء وماؤنا الواحد حىّ يتغير ويتطور كما يتغير ويتطور كل حىّ وسقيانا منه هى الأخرى تتغير وتتطور أيضًا وباستمرار إلى الأمام أوإلى الخلف !
وعدم رضانا بما يتعين ويحدث باطراد فى حياتنا ـ قد يبدوأنه شىء يتعارض مع تمسكنا بالحياة وحرصنا عليه، لكن واقع الحال أننا نتمسك بالحياة نفسها كما هى كإمكانيات واستطاعات وآمال ورغبات ومخاوف ولا نتمسك بحوادثها وتعييناتها سواء المنسوبة إلينا أوالمعزوة إلى الآخرين أوالطبيعة .. ويبدأ تمسكنا بها يضعف حين يداخلنا شك قوى بأن حياتنا ليس فيها أكثر مما تعين وحدث فعلا ورأيناه ورآه غيرنا منها .. عندئذ نبدأ نفقد إيماننا الفطرى أوالطفلى بها وبجعبتها التى لا تنفد وتخبوثقتنا بأن عندها ما قد يرضينا أولا بد أن يرضينا بطريقة أوبأخرى  رضا ليس تافها ولا عرضيا ولا وهميا !
 ونحن  نعيش أغلب الوقت دون أن نهتم بالحكم على حياتنا وقيمتها ـ وهى قيمة على كل حال مهما كانت، وهذا قد يفسّر إنفاقنا وبعثرتنا وتبديدنا لها كيفما اتفق بلا حساب ولا غاية وترك الآخرين يدفعوننا إلى إنفاقها وتبديدها بلا عناية ولا احتفال كأن فكرة الجدوى غير أصيلة  بالنسبة للحياة .. ولكن الخلط بين الجدوى وبين العناية غير معقول بالنسبة للحياة .. فالحياة  تستلزم العناية بها، وإذا كانت الجدوى سؤالاً لا تسأله الحياة الطبيعية وإنما يسأله عقل الإنسان فقط ــــ فإن العناية تتطلبها الحياة والطبيعة وتلاحظانها فى أدق الأشياء وأكبرها !