الحرس القديم والمتواجد في كل الوزارات والمؤسسات هو ما يحتاج منا إلي مواجهة وتغيير حاسم قبل أي خطة تغيير وليس هذا بعسير.
أظنني واحداً ممن تحدثوا في شأن النظام التعليمي في مصر وما تعانيه مصر منه وما نعانيه بسببه وربما أفرطت في إلحاحي المتكرر الذي قد يبدو للبعض تزيداً أو تربصاً لا مبرر له.. غير أني علي اقتناع بأن مسألة النظام التعليمي في مصر يأتي في صدارة الأولويات للتعامل مع المستقبل.. بقدر ما عليه حالته المتدهورة - التي تجعل ترتيبه في الصدارة ايضاً إذا عددنا اسباباً لما نعانيه في مناح شتي في واقعنا بما في ذلك ما جد من ظواهر تروعنا وتروع العالم كظاهرة التشدد والإرهاب.. وكيف أن نظام التعليم بما يكرسه من أسلوب (التلقين الأعمي) صنو للفكر المتشدد وهو ما يدمر قدرات العقل البشري الذي خلق ليفكر بشكل خلاق في شئون حياته وشئون الوجود حوله وهو ما يستحيل مع نهج التلقين ونهج التشدد والجمود أما قضايا الثقافة والفنون والإعلام أيضاً.. فالتعليم عنصر مؤثر فيها وللغاية بالسلب أو بالإيجاب وبالسلب يملك ان يعوق أي دور لها مهما كان نشطاً والعكس صحيح.. وخاصة إذا رصدنا الأمور من جذورها.. مثلما كان حديثي قبلاً عن ديمقراطية الثقافة التي يمكن أن تحققها الثقافة الجماهيرية بمعناها الصحيح والذي تحققه مشاركة الجماهير العريضة في إبداع الثقافة مثلما تتلقاها وتتأثر بها.. وإذن .. وفالتعليم.. والثقافة الجماهيرية.. هي المدخل الصحيح لكل أدوار الثقافة والفنون أما الإعلام وصورته الآن وتأثيره.. فالمتأمل يجد أن الأمية والجهل وطمس ما كان من وعي العقل المصري.. تقف جميعاً وبشكل أولي مع كل مشاكل الإعلام الآن وما يحيط بها من تداعيات مرحلة الانتقال هذه.
تصادف أن شاهدت واستمعت إلي آراء عدد من علماء التربية والتعليم والتخطيط ببرنامج تليفزيوني كانوا ثلاثة: الدكتور (أحمد النبوي) خبير في التخطيط التربوي لدول شرق آسيا، والدكتور (أحمد خيري) وله شأنه في الجامعة المصرية اليابانية، اما ثالثهم فهو الدكتور (راضي حجازي) ممثلاً لوزارة التعليم بحكم منصبه. اسهب الدكتوران النبوي وخيري في الحديث عن أزمة النظام التعليمي وحتمية تغييره جذرياً وفقاً لحقائق.. واتفقا في أمر هام.. هو أن تغيير هذا النظام جذرياً يحتاج قبل أي شيء إلي قرار سيادي يصدر مباشرة من القيادة السياسية ويضمن الدعم اللازم لتنفيذه. وأوافقهما تماماً بشأن هذا المطلب حيث أن الأمر بالغ الأهمية لمستقبل مصر، بل لأمنها القومي.. ولا أظن أن القيادة السياسية يمكن أن تمانع لأهمية القرار.. ولكن هناك ما استوقفني وأقلقني في رد ممثل وزارة التعليم علي المقترح بل وردوده علي كل ما أثاره العالمان.. وجعلني اعود إلي نفسي متسائلاً: ما طبيعة هذا القرار وتفاصيله؟ ومن يحدد ذلك؟ ومن يقوم علي تنفيذه؟ هنا برز أمامي شبح مخيف كنت قد نسيته رغم أنني أراه دائماً يسد علينا أي طريق للتغيير في قضية التعليم.. وفي غير قضية التعليم - وهو الحرس القديم!!
نعم ولنطرح ما نراه من قرارات التغيير الجذرية وفق أهداف الصالح العام والأمة.. وليصدر الرئيس بها القرارات الرئاسية ملزمة للكافة وضامنة للتنفيذ وفق صلاحياته الدستورية.. ولنفترض أن البركة حلت علي الحياة البرلمانية وعلي القوي الوطنية فيها لصالح مصر وشعبها.. واستطاعت في حدود ما يفرضه الدستور وما أعطاها من صلاحيات في التشريع والرقابة.. فأصدرت قرارات بقوانين ملزمة وواجبة التنفيذ.. عندها قد يكون من حقنا أن نبتهج ونتفاءل.. لكن .. ويا للعجب ما بال القرارات تنفذ في عكس هدفها تماما؟! أليس هذا ما يحدث!؟.. نعم يحدث.
ذلك أنها إذ تهبط إلي الحرس القديم في النهاية تتبدل ملامحها ومحتواها سواء كان هذا الحرس القديم هم جند البيروقراطية العتيقة بفكرها العقيم ومصالحها الضيقة أو كانت اذرع واذناب عصر مبارك أو عصر الإخوان الكامنين في كل مكان بما في ذلك الوزارات بعدائهم المتوقع للتغيير.. وجميعها في الحقيقة تنبع وتصب في ولائها للجمود وفق ما كان .. ودحر أي محاولة للتغيير بكل فنون الالتفاف والمراوغة حيث تموت كل أحلام التغيير في مهدها!
ولدينا الدليل الساطع في تصريحات الرئاسة نحو التغيير.. يقابلها واقع يمضي عكسها تماماً وفي فوضي وعشوائية مدهشة.. وأبلغ هذه الدلائل وأكثرها صدي ما صدر من تصريحات متكررة بإلحاح - وكتابات ايضاً - تدعو لتطوير الخطاب الديني.. لكن الواقع علي الأرض يعزز ظواهر التشدد في تناقض غريب فنحن نجد مثلاً حالة من التراضي بين مؤسسات الدولةوالتيار السلفي الوريث الأبعد تشدداً للإخوان حتي أنه يدخل البرلمان آمناً مطمئناً رغم ما نص عليه الدستور بل إن سيطرته علي جزء كبير من الشارع المصري قائمة استغلالاً لروح التدين لدي الشعب المصري - دون أي تحفظ من أحد علي انتشار جمعياتهم ومساجدهم وكل أشكال التأثير.. وفي المقابل نجد تضييقاً تاماً علي أي اجتهاد. والاجتهاد وإعمال العقل أمر يطالبنا به الإسلام حتي لو أخطأنا في التقدير.. أقول نجد تضييقاً يصل إلي حد الحبس بتهمة ازدراء الأديان..! وتلك تهمة هي في ذاتها إهانة للأديان وقدسيتها.. وتنطوي علي تعسف مقصود.. لا تقبل به روح الدين الحنيف ومبتدعو هذه التهمة يقعون في منطقة الحرس القديم المتربصين بأي تغيير لصالح المستقبل وضد مصالحهم ومواقعهم.. وهذا ما ينطبق علي أي محاولة لتغيير نظام التعليم في مصر فهناك حرس قديم موجود في مفاصل وزارة التعليم.. وهم من يضعون المناهج من سنين ويطبعون كتبه وهم من يتولون الاشراف علي تطبيق الشرط العتيق المدمر (التلقين) تحكمهم في ذلك عقول بالية ومصالح ضيقة ومكاسب وظيفية.. وهم الآن من يتولون إصلاح المناهج!!