خلال الخمسين عاما الماضية، قد تآكل التعليم وكذلك أبحاث التطوير والتنمية بشكل صارخ

المعرفة تجعل العالم يسير بشكل دائري.. ورحلاتي داخل عالم المعرفة ربما تتيح ولادة "ربيع علمي" في الشرق الأوسط عبر استكمال دورة قدرية بدأت منذ 70 عاما مضت. هذه الدورة قد أخذتني من منطقة دلتا النيل التي كانت يوما مركزا للتعلم، الي قمة صروح العلوم في يومنا هذا وهومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بالولايات المتحدة، الي ان يتم منحي جائزة نوبل ثم العودة الي مصر حيث نعمل علي بناء صرح علمي آخر مماثل للشرق الأوسط وهو"مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا".
ولدت في محافظة دمنهور وقضيت طفولتي في مدينة دسوق، التي لا تبعد كثيرا عن موقع اكتشاف حجر رشيد. لقد كانت مصر هي مكان إنشاء أول جامعة حديثة بالعالم؛ الأزهر، التي تأسست بين عامي 970 و972 ميلادية، وكذلك جامعة القاهرة التي تأسست قبل قرن من الزمان.
وعند التحاقي بجامعة الاسكندرية في الستينيات من القرن الماضي، انعكست التقاليد الرائعة في التعليم الذي تلقيته. لكن خلال الخمسين عاما الماضية، قد تآكل التعليم وكذلك أبحاث التطوير والتنمية بشكل صارخ بسبب تجاهل الإدارات الحاكمة لها في مصر. ومما يحزن ان التعليم في مصر قد خرج من قائمة أفضل مائة نظام تعليمي في العالم وذلك بحسب بيانات الأمم المتحدة في حين أن مصر، بطاقتها الشبابية وسط الـ90 مليون نسمة، تستطيع بل ويجب ان تصبح "قيادية" المنطقة في هذا المجال. وعندما وصلت الي"معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" كأستاذ مساعد في السبعينيات، كانت الولايات المتحدة، ولا تزال، قائد العلوم في العالم، وذلك بسبب اسهامات معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا والمعاهد والمؤسسات المماثلة.
ليس من المبالغ فيه القول ان معهد كاليفورنيا هو واحد من أفضل صروح التقدم العلمي في العالم الان. وقد كانت بيئته الداعمة للأبحاث الأساسية قد ساعدتني ومكنتني في تسجيل أحداث عبر مقياس ذري تبلغ وحدته الزمنية جزءا من ملايين المليارات من الثانية الواحدة فيما يعرف بالفمتوثانية، وهو تطور حصلت في مقابله علي جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999.
ومنذ أيامي الأولي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا حلمت ببناء مؤسسة مماثلة في وطني الأم. كان تصميمي وطاقتي موجهين الي بناء مدينة معرفة للعلوم والتكنولوجيا في مصر، علي أمل ان تصير يوما ما وكأنها "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" الخاص بالشرق الأوسط. وبناء قاعدة للعلم الحديث في مصر هو أمر يحتاج الي الصبر والإصرار. والهدف هو إشراك مصر في "اقتصاد المعرفة" في العالم المعاصر ولأن تتبوأ موقعا جديدا في أبحاث التنمية والتعليم بفخر بما سيساعد ـ في رأيي ـ في تسهيل عملية السلام في الشرق الأوسط.
قدمت فكرة مشروع المدينة عام 1999 الي الرئيس المصري آنذاك "حسني مبارك"، وطوال سنوات ظل المشروع راكدا طوال تلك السنوات الضائعة. لكن بعد ثورة يناير 2011، تم إحياء المشروع مرة أخري. وأصدرت الحكومة المصرية مرسوما بتأسيس تلك المدينة العلمية كمشروع قومي لإحياء العلوم، باسم "مدينة زيل للعوم والتكنولوجيا". وتم افتتاح المدينة في نوفمبر 2011 في منطقة علي مشارف القاهرة.
وتعتبر مدينة زويل مؤسسة فريدة من نوعها من خلال عدة أبعاد، أولا: أنشئت المدينة بشكل غير مسبوق في مصر عبر تبرعات المواطنين ودعم الحكومة. وقد أمر الرئيس الهيئة الهندسية التابعة للجيش لتكون مسئولة عن انشاء المدينة علي مساحة أكثر من 80 فدانا. ثانيا: المدينة لها قانونها الخاص بها الذي وضع لها عام 2012 والذي يتيح ادارة مستقلة لها عبر مجلس أمناء. ثالثا: المدينة تضم ثلاثة هياكل تفاعلية: الجامعة والمعاهد العلمية والهرم التكنولوجي، وهي هياكل تم تصميمها لأن تتيح التعليم في مستواه العالمي والبحث العلمي والتأثير الصناعي. والهدف هوبناء قاعدة للعلم الحديث بقطاع صناعي متطور، وكذلك لوقف نزيف العقول في تلك الحقول الهامة من العلوم والهندسة.
والهدف الأول للجامعة هو جذب الطلاب الموهوبين من كل أنحاء مصر وتقديم تعليم متخصص لهم يضم أحدث ما تم التوصل اليه في مجالي العلوم والهندسة. والمفهوم الجديد هنا هومغادرة قاعات الدرس التقليدية الي ساحات من التعليم متعدد المناهج. وفي العام الأول من العمل تقدم نحوستة آلاف طالب للالتحاق بالجامعة وتم قبول 300 منهم بما يعادل نسبة 5% كما هي نسب الالتحاق في جامعتي هارفارد ويال في الولايات المتحدة.
أما الفرع الثاني من المدينة وهومعاهد الأبحاث فتضم مراكز متخصصة في آخر ما تم التوصل اليه في العلوم والهندسة. وتعطي الأولوية الي الأبحاث المتعلقة بالاحتياجات الوطنية. ويتسع نطاق الأبحاث من العلوم الطبية الحيوية والهامة للحد من الأمراض في المنطقة الي أبحاث التطوير والتنمية في مجالات مثل الطاقة الشمسية - كمصدر بديل للاستهلاك في مصر. وفي الوقت الحالي، بات لدينا سبعة مراكز للأبحاث في الفيزياء الأساسية، علوم الأجزاء، النانوتكنولوجي، التصوير ومجالات أخري. أما الهيكل الأخير من المدينة فيضم الهرم التكنولوجي والذي يهدف الي نقل ما تنتجه المعاهد العلمية الي تطبيقات صناعية، وجذب الشركات العالمية لتتبناه.
إن مصر كانت ولاتزال قائد العالم العربي، وثورتها القادمة في التعليم والثقافة سوف تحدث تغييرات كبيرة في دول عربية أخري. حتي وان كان ذلك الدور القيادي قد تراجع خلال العقود الثلاثة الأخيرة، فإن مصر لاتزال تحتفظ بتاريخ وقواعد، بل وأيضا القوة البشرية والمؤسسات، لكي تصير "رائدة" التحول الضروري.
والأمل هو ان الصحوة السياسية التي تنشط بالفعل في المنطقة سوف تدعم انطلاق "ربيع علمي" يجتاح الشرق الأوسط ويسمح ببناء مجتمع معرفي. فإن امتلاك المعرفة هومفهوم يتضمنه نسيج الدين الإسلامي وكان سببا في امبراطوريته منذ عدة قرون. لكن من أجل استعادة الموقع المتقدم في العالم الان فإنه يجب الاعتقاد مرة أخري في طلب العلم والمعرفة كهدف أساسي. ولذلك فإن التحول الثقافي هوالهدف الأسمي لمدينة زويل. ولمصر فسوف يكون الطريق هوالعودة الي جذورها الحضارية كمركز عالمي للتعلم وهوبالنسبة لي ما سوف يكمل دورة قدري الخاص.
> نقلا عن جريدة "هافتنجتون بوست" الأمريكية في 24 مارس الحالي.
ترجمة: ياسمين هاني