يعتبر كتاب (بحث عن الزمن المفقود) لمارسيل بروست من أهم الدعائم التي يتشكل منها تيار الوعي في الأدب في بدايات القرن العشرين، وقد الْتمع في هذا التيار كل من جيمس جويس وفرجينا وولف بشكل خاص، حيث أضاء ذلك الاتجاه قيماً إبداعية جديدة إلي مفاهيم الأدب وحداثته وأصبح نافذة تُطل علي طرائق جادة للتجريب في عوالم الأدب وثقافاته، ولقد أوْحي لي عنوان هذا الكتاب بقراءة تحملها تلك الكلمات في الزمان وأثره علي التجربة المصرية في حياتنا المعاصره، منذ منتصف القرن العشرين وحتي الآن، وذلك من خلال علاقة الإنسان المصري بالحِراك الاجتماعي التي حدثت بعد ثورة يوليو 1952 وتأثيرها المتغيّر علي تناول الزّمن وإدراك قيمته في حركة الحياة، وتأثير ذلك علي استفادة الفرد وإفادة المجتمع، وكان من البديهي أن يكون علم الأخلاق هو الحَكَمْ علي مدي ارتباط تأثير ذلك الحِراك علي المبادئ والمثل العليا لدي الإنسان المصري، فلقد بدأ التحوّل الاجتماعي يقتدي بفترة القومية المصرية ( التي تألقت في النصف الأول من القرن العشرين )، برؤية تعتني بالبعد الاجتماعي الذي يرتكز علي إذابة الفوارق بين الطبقات وإرساء مفاهيم العدالة الاجتماعية، مصاحباً لذلك منظومة من المشروعات القومية التي تهدف إلي قدرة الدولة وقوّتها (الإصلاح الزراعي. مجانية التعليم. تأميم قناة السويس. بناء السد العالي. وغيرها)، ولقد كان إيقاع الزمن يلهث وراء طموحات تعجّلت فيها إدارة الدولة ــــ آنذاك ــــ رغبة في التفوق والازدهار، وبدأت التضحيات المتوالية تجاه صلابة بنيان الدولة متأثرة بالآثار الجانبية لمعظم الإنجازات فتنتقص من الرصيد الكبير لتلك النجاحات، وتوالت إدارات الدولة وهي تجتهد في إزالة آثار الإخفاقات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية ثم مراحل تحقيق السلام، دون توقّف للآثار الجانبية التي تزداد في مقاومتها للتّطور والتّنمية، حتي رحيل القرن العشرين وأتي القرن الواحد والعشرون لتشهد بداياته استمراراً محدوداً لتلك النجاحات والإخفاقات المتوالية، بينما (الزمان) مستمر دون مواقيت تُحْتسب في ذاكرة التاريخ بما لنا وما علينا.
لقد كانت الذاكرة المصرية التي تؤرّخ للنجاحات والانكسارات في التجربة المصرية فاقدة للوعي بما يحدث من ارتباك في (صناعة الأنفس)، فالتجاهل والإهمال في دعْم المبادئ والأخلاقيات في تلك الصناعة.. يتم بلا وعي ولا انتباه طوعاً أو كرهاً، وفاقت لياقة الشكل علي ثراء المضمون، مما أثّر علي البناء الأخلاقي للإنسان المصري خاصة في الشرائح الاجتماعية التي لم تهيئ لها إدارات الدولة البناء الواجب لآليات التّمدين والتّعلم والاقتصاد الآمن، فكانت النظريات التي تشّرع للتحولات الاجتماعية لا تتوافق مع واقع التطبيق، وعندما هانت هذه الآفة لدي مفاهيم التّمدين والتّعلم والاقتصاد الآمن، ظلت الأنفس في حالة فْقد مستمر في علاقتها بالقيم والمثل العليا، وأصبحت الثرْوة اليومية المتاحة لكل إنسان الـ (24 ساعة) مُهْدرة وتحوّل العمل والإنتاج فيها إلي سويعات قليلة عند الغالبية العظمي، ولا أجد سبيلا إلي مؤاخذة أصحاب تلك الأنفس (المجني عليها) ولكن المؤاخذة من نصيب من يديرون هذه الأنفس، فمثلما قال الإمام البوصيري في بْرديّته البديعة : النّفسُ كالطّفل إن أهْملْته شبّ علي حُب الرّضاعة.. وإنْ أفْطمْته ينْفطمِ.
نعم هكذا تضافرت حسن النوايا مع إدارات ذلك الزمان البليدة علي التحريض غير المباشر لافتقاد الزمن.. أعظم كنوز الإنسان وأكثرها قدراً وقيمة، وعندما يسائل الإنسان نفسه كل يوم : ماذا فعلتُ في تلك الثروة الـ ( 24 ساعة ) وماذا كان نصيب كل من العقل والروح والوجدان ؟، وماذا فعلتُ لصيانة واحترام جسدي أمام البيان الذي ذكره الله سبحانه وتعالي في كتابه الكريم (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) سورة التين ، ماذا فعلتُ في حركة الحياة نحو إعمار الأرض وفعل الخير والدّعم الدائم لانتشار المحبة والسلام ؟، ماذا فعلتُ في تلك الثروة الثمينة الـ (24 ساعة) لخلافة الله علي الأرض؟ (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) سورة البقرة ماذا فعلتُ بالجهاز الرقابي الذي يقع في الفص الأمامي من المخ (الضّمير) ماذا فعلتُ أمام ضميري ذلك القاضي العادل وأنا ماثل أمامه طوال كل ساعات العمر (مدعياً ومتهماً وشاهداً علي نفسي ) ماذا فعلتُ للدنيا مقابل نعمة الحياة وماذا سأقدمه لها بعد رحيلي ؟ . قد ماتَ قـومٌ ومَا مَاتَتْ مـكـارِمُهم وعَاشَ قومٌ وهُم فِي النَّاس ِأمْواتُ. الإمام الشافعي ، كل هذه التساؤلات إجاباتها هي أرقي وأعظم سبل التقرّب إلي الله تعبداً وإيماناً وخشية، وهي الفرائض التي سنُحاسًب عليها أولاً يوم الحساب.
إن الثروة الثريّة الـ ( 24 ساعة ) لها ميقات دنيوي سيُحاسب الإنسان فيه علي حسن استعمالها، ولكنها تظل زمنا من الزمان..الذي لا ميقات له، وحسابه سوف يُحتسب بما فعله الإنسان لنفسه وللحياة، ثم لتلك الأمانة المقدّسة عندما جعله الله خليفة له في الأرض بنعمة العقل والروح والوجدان وليس كأحد الكائنات الحيّة التي خُلقت علي ذلك الكوكب فقط لتأكل وتشرب وتتناسل.
إنني أري أنه من خلال هذه التحرّيات المتواضعة بتلك الكلمات أننا قد عثْرنا علي الزّمن المفقود وبقي لنا شرف الحرص علي تلك الثّروة الثّرية.. واستثْمار ذلك الكنز العظيم.