بالنسبة لجحافل النقاد الذين تقاطروا من أسبوعين علي مدينة «كان» الفرنسية للفرجة والمتعة والمشاركة في أكبر تظاهرة عالمية تحتفي بفن السينما وتنطلق بانتظام (عدا استثناءات قليلة) منذ نحو سبعين عاما من هذه المدينة الصغيرة الراقدة علي ساحل «الريفيرا الفرنسية» الفخم ومقصد المتعة لأغني أغنياء الدنيا.. بالنسبة لأغلب هؤلاء النقاد لم تكن هناك أية مفاجأة في إعلان لجنة تحكيم المهرجان السينمائي الذي يحمل اسم تلك المدينة فوز المخرج البريطاني الكبير «كين لوتش» وللمرة الثانية في حياته الفنية الطويلة والزخارة، بـ «السعفة الذهبية» التي هي أكبر جوائز المهرجان السينمائي ذائع الصيت، عن أحدث إبداعاته المتفوقة في العمق والجمال، فيلم «أنا دنيال بليك».
أما «دنيال بليك» فهو مواطن بريطاني بسيط وفقير يتتبع الفيلم حكايته ومعاناته التي يشاركه فيها ملايين المواطنين أمثاله تحت الظلال الثقيلة لسياسات يمينية هوجاء ونظم اجتماعية بالغة القسوة تسحق الفقراء وتضخ المزيد من الثروات في كروش الأغنياء، فيما «اليسار الحقيقي المحترم» غائب عن المشهد، بل إن بعض الأحزاب الأوروبية التي تنسب نفسها إليه لم تكتف بهجرة وإهمال القيم والمبادئ الإنسانية الراقية لكنها تمادت وذهبت بعيدا عندما «نشلت» برامج وسياسات اليمين وراحت تطبقها (إلا قليلا) بإخلاص شديد، كلما صعدت إلي سدة الحكم.
إذن «لوتش» الفنان المخضرم (79 عاما) والموصوف، مع حفنة قليلة من أمثاله، بأنهم آخر ما تبقي في شجرة المبدعين اليساريين القابضين علي جمر الالتزام بالدفاع عن حقوق البشر في التمتع بالمساواة والعدالة، حظي بتكريم حار جدا يليق بتاريخه الطويل في صنع الجمال الشامل.. جمال القيم وجمال الفن.
غير أن المرء لا يستطيع تجاهل مفارقتين اثنتين انطوي عليهما هذا الحدث، أولاهما «مفارقة الزمن» إذ أتي التكريم في عصر هيمنة اليمين المتوحش، أما الثانية فهي «مفارقة الجغرافيا» حيث شهدت مدينة تتألق وسط مستوطنة الأغنياء، الإحتفاء بواحد من ألمع أنصار الفقراء.
قد تقول عزيزي القارئ إن هذا الذي يحدث في أوروبا بكل مفارقاته الصارخة يبدو أقل قبحا ووطأة مما يجري علي المسرح السياسي في بلادنا، حيث اليمين الفاشي والطائفي (الإخوان وأتباعهم) ينافس اليمين الفاجر والبذئ، ولا وجود تقريبا لأية قوي لها علاقة بقيم التقدم الإنساني عموما ومبادئ اليسار خصوصا.
طبعا عندك حق، وهذا الحال البائس الذي نعيشه الآن هو بالضبط ما أثار أشجانا وأحزانا ترقد في حشايا القلب وجعلها تخرج بمجرد بث نبأ فوز الفنان العظيم «كين لوتش» بسعفة مهرجان كان الذهبية.
ورغم أن مجتمعنا يمر حاليا بظرف استثنائي جدا علي كل الأصعدة، إذ فُرضت عليه حرب حقيقية بالغة الضراوة والقسوة مما يستلزم ويستدعي وحدة وطنية صلبة من ضروراتها أن يتعطل مؤقتا التنافس الأيديولوجي الطبيعي بين تنوعات الطيف السياسي يسارا ويمينا ووسطا وخلافه، ومع ذلك يظل هذا الفراغ الذي يتركه غياب اليسار، أو علي الأقل فقدانه قوة تأثيره الفكري والمعنوي، أمرا شاذا بقدر ما هو ضار ومؤذ جدا (في مراحل كثيرة وقريبة كان النفوذ الثقافي والفكري والدعائي لليسار والقيم التقدمية والإنسانية الراقية التي يبشر بها، قويا بما لا يقارن بنفوذه السياسي والتنظيمي والحركي).. باختصار، هذا الغياب يجعل هدف التقدم بسرعة معقولة نحو مجتمع جديد ناهض يتمتع فيه خلق الله بالحرية وأسباب الحياة الكريمة، مجرد حلم لذيذ نحلق به في فضاء الخيال.
و.. دعني عزيزي القارئ أختم بإشارة مختصرة جدا إلي مسرحيتين شهيرتين كلتاهما عنوانها يبدأ بكلمتي «في انتظار..»، الأولي أبدعها صمويل بيكت ونشرها تحت عنوان «في انتظار جودو»، وهذا الأخير شخصية وهمية تبدأ المسرحية وتنتهي من دون أن نعرف من هو، ولماذا ظل بطلاها يتحدثان ويثرثران عنه وينتظرانه حتي هبط ستار المسرح عليهما؟.. ولا تبرير لذلك إلا أن بيكت كان نجما بارزا جدا في تيار مسرح العبث الذي آل مبدعوه علي أنفسهم مواجهة مآسي الوجود الإنساني وعدميته المؤلمة بالمحاكاة الدرامية لهذه العدمية.
أما المسرحية الثانية فقد كتبها المسرحي الأمريكي كليفورد أوديتس، وكان عنوانها واضحا وسافرا ومباشرا تماما، «في انتظار لفتي»، و«لفتي» هذا رغم أنه اسم شخص في المسرحية فإنه منقول حرفيا عن كلمة «يسار» بالإنجليزية.. هذه المباشرة في العنوان تناسب حال أوديتس الذي كان لا يداري انتماءه السياسي الصريح لليسار (بعكس مراوغة «بيكت» وزملائه العبثيين) كما أن المباشرة والوضوح نفسيهما طبعَا مضمون المسرحية التي تُعرض في فصل واحد وخمسة مشاهد، قصة سعْي عمال غلابة للاتفاق علي تنظيم إضراب احتجاجي في مواجهة الاستغلال الواقع عليهم وسوء وبؤس أوضاعهم، وهم ينتظرون زعيمهم «لفتي» لكنه لا يأتي.. لأنه ببساطة تعرض لحادثة اغتيال ومات.. أو هكذا أُشيع في أوساط زملائه.