لأنني علي علم ببعض قدرها.. فيثقلني الألم بمرارة.. حين تلم بها الأوجاع ويتكالب عليها الذئاب والتآمر والكذب - رغم يقيني بقدرتها دائما علي الصمود - وأسأل الكذبة والطبالين هنا أولا - هل تعرف قدر بلدك هذا حقا؟.. أعتقد أن الجميع يحتاجون أولا ليس للهتاف أو التغني بحبها أو مواجعها.. بل يحتاج الجميع إلي معرفة قدر هذا البلد أولا لدي التاريخ منذ بدأ ، ومكانتها بين أمم الارض جميعا، وكيف جاء تاريخها بخيره وشره وما تراكم علي شعبها من هموم ومحن.. ليري من لديه بصيرة وصدق عليم اننا أمام بلد فريد يحمل شعبا عجيبا ذا جلد.. وجد ليبقي رغم ما مر به .. وان بعض ما عاني كان يكفي لإزالة أمم وهدم أمجاد ممالك.. وأن كل من حاول ممن غرته قوته لفترة أو أغواه لؤمه وشيطانه .. كي يخضع هذا الشعب أو يطمس قواه أو هويته الفريدة.. باء في النهاية بالحسرة أو الزوال وهي باقية أيا كان ما تحملته.
- بالطبع لست أبغي إدانة التغني بحبها كما الآن.. فهي تستحق كل الحب والولاء لكن بمشاعر صادقة.. ومازال بعضنا يحفظ ما أبدعه حافظ وشوقي وغيرهما في حبها عن صدق وبصيرة.. ومازال صوت أم كلثوم يتردد صداه بداخلنا بكل ما شدت به من أشعار هؤلاء الكبار وبعض ممن جاء بعدهم بما يليق بها وبهم وخاصة في لحظات الابتلاء ... وأيضا لست أنوي الخوض فيما سطر «د. جمال حمدان» أو العاشق لمصر حتي الموت اغتيالا والذي تولد عشقه هذا عن عمق وشمول معرفته بمصر في سفره المهم «شخصية مصر» فهذا فوق طاقة مقال . إنما أبغي ان أسوق بعض خواطر تتعلق بقدر هذا البلد وتفرد شعبه في تجاوز أي محن مهما كانت.. ومهما تواطأ ضدها ذئاب الخارج والداخل وانظر بعدها إلي تأثير مصر في دائرتها العربية وكيف أنها درع للعرب من قديم كقدر مقدر لا خيار فيه وأنها إن نهضت نهضوا .. وإن كبت .. كبوا.. مكتفيا بملمح واحد فقط يؤكد ذلك.. وهو الرد علي من لا يري في تاريخ العرب الحديث إلا الهزائم.. أي أن تاريخ العرب الحديث تاريخ هزائمَ!
- فنحن إن تركنا الماضي الأبعد وما يُضْرَبْ من أمثال عن علاقة مصر بالعرب .. مكتفين بالعصر الحديث نجد إضافة أهم في دورها العربي وهي أن الهزائم العربية يأتي تجاوزها بالدرجة الاولي من مصر. وكيف تتحول الهزيمة علي يديها انتصارا.. أو ضوء أمل.
- فقد خضع العالم العربي بما فيه مصر لسيطرة الدولة العثمانية وما فرضته من عتمة طويلة وتخلف .. حتي هبت مصر ناهضة علي يد محمد علي وشعبها. فهذا الرجل شديد الذكاء الفطري والبصيرة النافذة.. إستطاع أن يري قدرات مصر وتفردها.. ليأتي برد علي التردي الطويل مع الهيمنة العثمانية.. حيث أيقظ في الشعب المصري قدراته التي استطاع بها مناطحة التخلف العثماني والخروج بمصر إلي تحديث واسع وميلاد جديد.. وبعدما أطاح أيضا بهيمنة المماليك ومظالمهم.. وحين اكتملت لمصر عناصر القوة والحداثة استدار إلي مواجهة مباشرة مع العثمانيين لتحرير العرب من سطوتهم وبدأ زحفه لذلك حتي كاد أن يصل إلي أبواب الاستانة وكان ذلك بقدرات المصريين التي سبق اختبارها.
- أي أنه لم يكن الصانع لمصر الحديثة بل هو الرجل الذي قاده ذكاؤه إلي اكتشاف قدرات المصريين وأهلته لإخراج العرب من ظلمة العصر العثماني بكل ما ألقاه عليهم من ظلال التخلف والسبات العميق.
- يأتي من يخبرنا بأن هذا الحلم المصري بالحداثة والريادة إنتهي إلي تراجع بعد هزيمة محمد علي حين أوشك علي تهديد عاصمة الخلافة المتهالكة - تهديد لا يريده الغرب علي هذا النحو - والأهم لديهم خطورة هذا الكيان المصري المتنامي علي أهداف الغرب القريبة والبعيدة.. فكان إحتشاد الغرب بضربة محمد علي ورد هذا النمو المصري المتصاعد في طموح.. وأبقوا لمحمد علي حقه في أن يرث أبناؤه حكم مصر.. وكان هذا ضمانا آخر لهم حتي تظل تحت السيطرة من خلال حكامها من أسرة محمد علي!
- ورغم نهوض الفكر القومي العربي، وظهور نخبة عربية مستنيرة مثل الكواكبي ضمن فرسان التنوير في مصر .. إلا أن مواجهة المصريين لهذا النظام المشابه لأنظمة عربية أخري - جاء عمليا وقويا بثورة «أحمد عرابي» وكان لها صداها لدي الشعب المصري كله ثم جاء قهر هذه الثورة بالخيانة ضمن عوامل أخري واعتبرها النظام الحاكم خيانة له حتي صنائع أسرة محمد علي ممن نعتز بإبداعاتهم مثل أحمد شوقي نعتوا قائدها بذلك وتبع ذلك دخول الانجليز إلي مصر بفضل خائن حقيقي هو توفيق -مثلما جرت هزيمة جيش عرابي بالخيانة أيضا - لتضمن انجلترا سيطرتها الكاملة علي الجني الكامن بتلك الارض.. ويدعم هذا إتفاق سايكس .. بيكو الذي جعل مصر من نصيب انجلترا مثلما وزع باقي الدول العربية فيما بين الكبار.
- هل توقف حراك الشعب المصري وتوقفت ريادته للحرية في بلاد العرب وكسر مزاعم دائرة الهزائم الابدية؟ لا لم يتوقف .. بل وينتصر.. فثمة مقاومات عنيفة أرهقت المحتل منذ ذلك التاريخ وشحنت روح المقاومة في مصر كلها وفي بعض بلدان العرب حولها.
- إلي أن تصل إلي محطة فاصلة في تاريخ الهزائم العربية أو جريمة القرن العشرين كما أسماها كاتبنا الراحل «أحمد بهاء الدين» حيث جري تواطؤ بين الحركة الصهيونية وإنجلترا بإصدار «وعد بلفور» الذي تعهد بإقامة وطن قومي لليهود بفلسطين .. أتبعه أو واكبه تسريب أكبر عدد من اليهود إلي فلسطين وبالترتيب مع رؤساء العصابات المسلحة منهم.. وتمهيد لاعلان قرار التقسيم تمهيدا لاعتراف دولي واسع باسرائيل.. أعقب ذلك مباشرة إعلان رفض الدول العربية للقرار وإعلان الحرب.. حيث دخلت جيوش عربية إلي فلسطين لتحريرها من العصابات الصهيونية وكانت مصر الملكية وقتها في المقدمة.. ورغم سوء التخطيط وضعف الخبرة والامكانات حققت الجيوش العربية بعض الانتصارات التي أقلقت اليهود والداعمين لهم .. فجري فرض خدعة الهدنة لتحسين الأوضاع العسكرية لليهود ومدهم بالسلاح والعتاد والمؤن بل بالطائرات لاول مرة .. وانتهي ذلك بهز يمة الجيوش العربية وما سمي بنكبة ٤٨.
هنا نأتي مرة أخري لمقدرة هذا الشعب المتفرد .. علي طرح وجه آخر للمشهد علي غير ما أرادوه أو تخيلوه.. وكانت البداية علي يد شباب مصريين عادوا من الحرب وفي حلوقهم مرارة هذه الهزيمة لكل العرب.. ومرارة ما كان يجري في مصر . ليفجروا مستقبلا جديدا لمصر وللعرب.. بل ولكل القوي التي تصبو للحرية في العالم الثالث وللحديث بقية لخواطر عن مصر.. وهي الآن في لحظات شدة!