اعتدنا أن نتجاهل الماضي بكل ما حمل من أحداث وذكريات أليمة، ونعتبر أن مواجهته أمرا مخيفا ومضنيا، ودأبنا علي تناسي الجراح الدفينة الراقدة داخل أعماقنا من زمن فات، وتغافل التشوهات والندبات الغائرة التي نزفت حتي تجمدت الدماء في أغوارها، وأدمنا العيش أسري لصندوق الماضي، ولتلك الأحداث والتجارب الحياتية الصعبة التي مرت في حياتنا، وتركت بصماتها الغائرة علي مشاعرنا.
إننا غالبا ما نعتبر أن تلك التجارب المأسوية عقاب من الحياة، وننظر إلي المواقف والأحداث المؤلمة علي أنها شرور اعترضت طريقنا، لأننا تواجدنا في المكان والزمان الخاطئين، ونكتفي بإلقاء اللوم علي القدر الذي لم يكن منصفا وعادلا معنا، ولا ندرك بذلك أننا نعوق مسيرة حياتنا، ونحرم أنفسنا الخلاص من توابع ذلك السجن المظلم.
ودعوني في البداية أحكي لكم عن التجربة التي تعرضت لها ماري جوفاني مؤلفة كتاب «التفكير خارج الصندوق» وجعلتها تعيش داخل صندوق من الخوف الشديد 20 عاما، فحينما كانت في الثالثة عشرة من عمرها تعرضت للتحرش الجنسي من شخص محل ثقة من الناس ، ترك المدينة بعد الحادث بوقت قصير، وهو علي يقين من أن الأطفال لا يخبرون أحدا بما يحدث خوفا من العقاب واللوم ! ولم تخبر «ماري» أمها سوي حين بلغت الثالثة والثلاثين من عمرها، وظلت كل تلك السنوات وحدها تعاني من الشعور بالذنب والخجل من تلك التجربة التي كانت بمثابة السر الدفين الراقد في أعماقها، فقد كانت تظن أنها الوحيدة التي تعرضت لمثل تلك التجربة المؤلمة، لكنها عرفت بعد ذلك أن واحدة من بين كل 3 فتيات في الولايات المتحدة تتعرض للتحرش الجنسي، ومن بين كل 6 أولاد يتعرض واحد للتجربة نفسها قبل سن 18 عاما !!
وتري المؤلفة أنها لو لم تكن تعرضت في طفولتها لهذا الحادث لما أصبحت رقيقة المشاعر وأكثر إنسانية وتعاطفا، وتعشق مساعدة الآخرين، لأنها حين تعرضت لتلك التجربة المؤلمة لم يقف أحد بجانبها، كما كانت تجربتها الأساس الذي قامت عليه حملتها التشجيعية بعد اكتشافها للإحصاءات المرعبة المتعلقة بأعداد الأطفال الذين تعرضوا للتحرش الجنسي.
لذا علينا أولا التعرف علي تلك الصناديق وفهمها، والنظر إليها من منظور مختلف تماما، يضفي عليها بعض المعاني الجديدة ، ويجعل من تلك التجارب الأليمة وسيلة لإيجاد معني ورؤية مختلفة، وأن نحاول إيجاد تفسير ومعني لهذه الأحداث المؤلمة، ، لكي نتعلم منها درسا مفيدا للحياة، ونعرف أننا لو لم نكن مررنا بتلك التجارب لما اكتسبنا خبرات وصفات قد لا نكتسبها ما لم نمر بها .
علينا أن نعي جيدا أن لصندوق الماضي آثار كبيرة علي علاقتنا وسلوكياتنا وقراراتنا دون أن نشعر، وإذا أمعنا النظر في بعض النتائج المترتبة علي العيش بداخله لأدركنا خطورة النتائج المترتبة علي البقاء داخل هذا السجن، وعرفنا أن التخلص من تلك القيود قد يساعدنا علي التحرر والتقدم.
فإذا نظرنا للخير الهائل الذي نتج عن بعض الأحداث المؤلمة في حياتنا، وأدركنا أن هناك نورا مضاء في نهاية النفق المظلم، فإننا نستطيع استغلال قدراتنا وإمكانياتنا، ونتمكن من إيجاد طريقة نتصالح بها مع أنفسنا، ونضاعف من قدرتنا علي مواصلة الرحلة، ألا يستحق هذا منا المخاطرة وتحطيم جدران صناديق الماضي التي كبلتنا سنوات طويلة ؟
إن من السهل علينا أن نصبح ضحية لذكريات الماضي، ونجعلها تقيد بقية حياتنا، ولكن هؤلاء الذين حصروا أنفسهم داخل « صندوق الوقوع كضحايا « لا يمتلكون سوي الأعذار، ويستمرون داخل دائرة الألم والحيرة والتشاؤم، ويظلون في انتظار الشخص الذي سيأتي ليحل لهم مشاكلهم !!
حذاري أن تتجاهل الماضي تماما ولا تفعل حياله أي شيء للتغلب عليه حتي لا يؤثر ذلك علي علاقتك بالآخرين، أو علي تقديرك لذاتك، وعلي صحتك .