"سكان المقابر" أموات فوق الأرض! 2012- م 04:54:26 الاحد 26 - فبراير إسراء النمر يرتجف جسدك أثناء مرورك من أمام المقابر، فماذا لو كنت تعيش بداخلها مع أموات كادوا أن يثوروا علي من يقاسمهم التراب؟ فالمكان هناك يتسع للرقود في باطنه وعلي ظهره، لتستيقظ علي منظر الشواهد الصماء، وتنام خائفاً من اللصوص الذين يطرقون الأبواب ليلاً، فلا تسمع سوي صمت الموتي و صراخ أقاربهم، ولا تستنشق غير رائحة العظام بعد تحللها، حتي ابتسامة الأطفال اختفت لتحل محلها هموم عميقة أكبر من أعمارهم، كل هذا من أجل دولة حكمت عليهم بالموت قبل الحياة، فلم تسعهم الأحياء الراقية والشعبية أو حتي العشوائيات، فزحفوا نحو الأموات لينعموا براحة البال. "»بوابة أخبار اليوم" ذهبت إلي مقابر السيدة عائشة كنموذج لمعاناة المهمشين في الأرض، لتحاورهم وتستمع إلي أوجاعهم، وتكتشف أحلامهم التي وجدناها لا تتجاوز أربعة جدران خارج المقابر، ووظيفة في أدني درجات السلم الاجتماعي، وتعليم أولادهم وستر بناتهم. بابتسامتين مشرقتين استقبلتنا طفلتان تلعبان "الاستغماية" حول والدهما عبدالعزيز الذي كتب علي باب الحوش الذي يقطن فيه "ثورة  25 يناير" أملا في تحقيق العدالة الاجتماعية، فمازال ينام وسط الموتي بعدما تخلت عنه زوجته هرباً من الهلع الذي شيّب شعر رأسها، يقول بعيني الرضا: "الفرق بيني وبين الميت.. أنني أتنفس وهو لا"، واصفاً الهدوء الذي يغمر المقابر بالممل والمحبط؛ فلا شيء يتغير ولا الموتي يستيقظون ولا هم يموتون، الزمن توقف ولا نري بوادر المستقبل، هنا فقط الحلم يظل حلماً ولا يتحقق! ويواصل حديثه: الحياة في المقابر لها طابع خاص، فبعد غروب الشمس تختبئ السيدات والبنات داخل الأحواش خوفا من متعاطي المخدرات والمنحرفين الذين يتخذون المقابر ملجأ لهم في الليل، أما الحرامية فيطرقون أبوابنا لإثارة الرعب بداخلنا، ففي كل مرة نفتح فيها الباب لا نجد سوي الظلام، ونتظاهر بالسعادة لأننا في أطهر مكان بالأرض. ويرثي عبد العزيز حاله بأن عمله كسائق لم يساعده في الحصول علي سكن آدمي مثل باقي البشر، واكتفي بأن يقطن في بيوت الآخرة، ولا يتمني سوي "لقمة نضيفة، وتعليم كويس" لأولاده. تقودني علي غفلة السيدة سكينة إلي داخل الحوش المكون من غرفة واحدة مظلمة تشمل: سرير وبوتجاز وخزانة ملابس وكنبة أنتريه متهالكة، وخارجها مرحاض مثير للاشمئزاز، وغسالة تستند علي أحد الأركان، وحبل ممتد من الشاهد إلي الحائط حاملا بعض الملابس المنشورة، سألتها عن رائحة الحنوط التي سكنت صدري، أخبرتني بوجه غلب عليه ملامح الرعب أنهم دفنوا ميتا هنا منذ أسبوع. وتضيف الأم الحزينة التي تبلغ من العمر  52 عاما: كل الأبواب غلقت في وجهي إلا المقبرة احتوتني أنا وبناتي، فلا يوجد شيء لا نعاني منه، اليوم يبدأ بمآس وينتهي بمآس، فنحصل علي قوت يومنا بالعافية من بيع المناديل، أو ننتظر "رحمة" زوار الموتي من (فطائر وبرتقال)، وإن لم يأت أحد لا نحزن "فنحن أموات مع أموات!!". تعاني سكينة من تليف كبدي، وحصي علي الكلي، وجلطة في القلب، ورغم ذلك لا تتمني العلاج لأنه بدون فائدة، كما أنها لا تأخذ معاشا لتنفق علي احتياجاتها، متحسرة علي بناتها اللائي أدركن الموت قبل الحياة، فهم لا يذهبن إلي المدرسة، ولا يستمتعن بطفولتهن، ولا يرتدين ملابس تليق بهن، يكتفين فقط بكلب صغير يؤنس وحدتهن، فتغلق عليهن باب الحوش كل يوم عندما تخرج لبيع المناديل، قائلة: "أخاف تبعد واحدة منهن، تروح ماترجعشي"، خاصة أن الحرامية يخطفون البنات والسيدات لابتزازنا في حين أننا لا نملك شيئا، وتنهي حديثها: "لا أريد سوي غرفة بحمام لبناتي بعيداً عن عيشة الميتين". أما الحاج حسن مجاهد فورث السكن في المقابر عن جده ووالده، فهو يعيش وسط الموتي منذ مولده عام 1932 ولم يجد أمامه فرصة عمل سوي أن يكون "تربي"، ليصل دخله من "حسنة الأرافة" إلي عشرة جنيهات أسبوعياً، تكفي وجبة طعام واحدة في اليوم إما فول أو طعمية، كما أن أولاده لا يستطيعون مساعدته لأنهم علي باب الله. لا يخشي مجاهد من ليل المقابر قائلا: "تعودنا علي الموت، فكبرنا ولعبنا معه!!"، مضيفا: الحياة هنا هادئة وسهلة، وعندي انتماء للمكان، ولا أرغب في الاختلاط بالفوضي والسيارات، لأني أتوه وسط الأحياء، أخبرته أن من أبسط حقوقه "الحياة"، قاطعني بأنه مستحيل؛ فالدولة تهملنا ولا ترغب في توفير شقق لنا، فقمنا منذ أربع سنين بتسجيل بياناتنا لدي حي السيدة زينب، ولم يحدث شيء. يتركني العجوز ليستقبل ضيوفه من أهالي الموتي، فاتجه إلي - زوجة ابنه - حنان محمد التي رضيت بالعيش في بيت صغير يطل علي المقابر منذ زواجها أملا في الحصول علي مسكن آخر، لكن صعوبة الحياة جعلتها تستغني عن هذا الطلب مقابل تعليم أبنائها، وبصوت مرتعش ومتقطع تقول: "نفسيتي تعبت من الحياة هنا، وأخشي علي ابنتي من الذهاب إلي الدروس ليلاً، وكل فترة نسمع عن حادثة قتل مختلفة، ولا نقترب من المقابر بعد دفن ميت جديد إلا بعد شهر، وساء وضع زوجي بعد الثورة، فأصبح عاطلا ولا يوجد دخل لنا، وننتظر عطف الناس بين الحين والآخر". يصطحبني "قوطة" التربي إلي وسط المقابر التي أطلق عليها مقابر "الغلابة" نظرا لبساطتها في التصميم، فهي مقتصرة علي الطوب دون دهانات، وداخلها غرف متراصة مبنية بأقل مواد البناء وأحيانا بالخوص والخشب، تعيش فيها أسر وعائلات لا دخل ولا مأوي لهم، منحها لهم صاحب الحوش لحماية أمواته من السرقة، دون مقابل مادي، وذلك بدون عقود لأن هذه الأماكن غير مخصصة للسكن، لكن هناك من يرفض أن يعيش أحد فيها، ويصف هؤلاء الموتي بالأفضل حظاً. وعلي بعد أمتار وصلنا إلي مقابر "الصدقة" التي بنيت منذ خمس سنين بتبرعات مجموعة من الحانوتية لأجل الموتي مجهولي الهوية، رافضين أن يسكن فيها أحد لأنها لله فقط، مؤكدا أنهم لا يأخذون عليها أي أجر، فهم متعاقدون مع مستشفيات وإذا لم يتم التعرف علي الجثة بعد 18 يوما من وفاته، يتم دفنه بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة من الجهات الأمنية والتي تشمل: التصوير وأخذ البصمات، مشيرا إلي ضرورة أخذ تصريح من النيابة لنقل الميت بعد تعرف الأهل عليه. ويفسر لجوء هؤلاء الغلابة للعيش مع الأموات بسبب زحفهم من الريف والصعيد إلي القاهرة هربا من الفقر، ليجدوا واقعا أشد قسوة؛ لا سكن ولا عمل، فيتورطون رغما عنهم في المقابر المكان الوحيد الذي لم يخيب آمالهم!