عادل حمودة يكتب ..مؤشرات حمراء في تحليل دم مصر !

الكاتب الصحفى عادل حمودة
الكاتب الصحفى عادل حمودة
نزيد كل سنة مليوني نسمة ولا نفكر في إعادة حملات تنظيم الأسرة علي منابر المساجد وشاشات الفضائيات رغم نجاحها من قبل !

أكثر من ثلاثين مليوناً مصابون بالأمية والتسرب من التعليم ولا يملكون ما يؤهلهم للعمـل فـي عصــر التكنولوجـيـا إلا بيـع المنـاديل فـي إشـارات المرور !

75 ٪ مـن المصــريين فـي أيديهـم موبـايـل ولكـن غالبيتهـم لا يستخدمون الإنترنت ولم يلمسوا جهاز كومبيوتر من قبل !

تضاعف عدد خريجـي الجـامعـات ولكنهم لا يجـدون فرص عمـل إلا في المطاعم ومحطات البنـزين وقص شـعر الكــلاب الكانيش !

الحـديث عن مراكـز تدريب العمالـة المؤهلـة ليـس ترفا وإنمـا إنقـاذ لملايين من العاطلين ليس أمامهم سوي السرقة أو التطرف أو الإدمان !

شكراً محمد صلاح علي التأهل لكأس العالم.. ولكن هل نؤمن بأن مستقبلنا في رؤوسنا وليس فقط بين أقدامنا ؟

والسؤال الأهم: هل تراجع الحكومة استراتيجية 2030 بعد التعداد الأخير أم أنها لم تحصل علي نسخة من مؤشراته بعد ؟


«بونلرك حسن تعدادي إنساني موقوف أو لملغه»‬ بهذه العبارة التركية أمر محمد علي باشا بالإعداد لأول تعداد عام في مصر.

وحسب ترجمة الباحث خالد فهمي فإن هذه العبارة تعني: »‬أن رفاهية الأهالي تعتمد علي تعداد عام جيد».

بدأ التعداد بالمديريات ( المحافظات ) الشمالية في عام 1827 وامتد إلي باقي المديريات حتي اكتمل في عام 1845.

كان الهدف إحصاء الذكور في سن التجنيد.. وتحديد العائلات الثرية التي تحتمل سداد الضرائب المفروضة عليها.. ورصد نصيب الفرد من القمح والذرة والشعير قبل وضع الدورة الزراعية الملزمة للفلاحين.

وبتطور أهداف الدولة تطور التعداد ليكشف عن مزيد من التفاصيل عن السكان: النوع والإنجاب والزواج والطلاق والسكن والتعليم والمهنة والبطالة والصحة والأمية والجريمة والهجرة والوفاة واستخدام التكنولوجيا والتصرف في القمامة ومعوقات العمل.

ولا تنتهي نتائج التعداد بإعلانها وإنما تستخدم في وضع خطط التنمية.. أو في تعديلها.. لتأخذ المجتمع من التخلف إلي التقدم.. ومن الجهل إلي العلم.. ومن الفقر إلي الثراء.. ومن المرض إلي العافية.. ومن الانكسار إلي الانبهار.. ومن الخرافة إلي التكنولوجيا.

وقد توقعت أن تعلن وزيرة التخطيط الدكتورة هالة السعيد أن حكومتها ستأخذ في حساباتها مؤشرات التعداد الأخير وهي تعيد النظر في استراتيجية التنمية 2030 لكن ذلك لم يحدث.

إن الأهداف التي حددتها »‬الاستراتيجية» شديدة الطموح: تحقيق معدل نمو يصل إلي 7% سنويا ورفع معدل الاستثمار إلي 30% وزيادة مساهمة الصادرات إلي 25% وزيادة المساحة العمرانية بنحو 7% خفض معدل البطالة إلي 5%.

وتستهدف »‬الاستراتيجية» أن تصبح مصر من أفضل 30 دولة في مؤشر جودة التعليم الأساسي والوصول بمعدل الأمية إلي 7% وأن تدخل عشر جامعات هنا علي الأقل في مؤشر أفضل 500 جامعة في العالم.

وتحلم »‬الاستراتيجية» بتطوير الجهاز الإداري لتصبح مصر ضمن أفضل 30 دولة في مجال كفاءة المؤسسات وضمن أفضل 40 دولة في مجال الحد من الهدر في الإنفاق الحكومي وضمن أقل 20 دولة في مؤشر الفساد.

لكن هل المؤشرات التي كشف عنها التعداد الأخير يمكن أن توصلنا إلي ما نسعي إليه أم أنها تفرض علينا إعادة النظر فيما نريد ؟.

لقد أحسن الجهاز المركزي للإحصاء عندما وضع شعار »‬تعدادنا مستقبلنا» وهو يقدم أرقام التعداد الأخير.. بدون هذه الأرقام سيكون المستقبل ضربا من الوهم.. وستصبح الخطط والاستراتيجيات نوعا من الخيال.. يسهل الكلام عنه.. يصعب تحقيقه.

وصل عدد السكان في مصر إلي 94.8 مليون نسمة بمعدل نمو 2.56% سنويا (أي مليون كل ستة شهور).. وهو يمثل خمسة أضعاف نظيره الصيني (نصف في المئة).. وثمانية أضعاف نظيره الكوري (ثلث في المئة) حسب ما أعلن اللواء أبو بكر الجندي رئيس جهاز التعبئة والإحصاء.

ولا شك أن السكان هم أهم موارد الدولة لكن بشرط أن يكونوا متعلمين ومنتجين ومتطورين..

دون ذلك تصبح زيادة السكان عبئا ومرضا وجهلا وضعفا وتخلفا.. بل.. وربما كانت سببا في إرهاب يقتل ويفجر دون أن يفهم.. أو في الاستسلام لمخدرات تهلك وتدمر..

أو زواج مبكر لقاصرات يضاعف من حجم ما نعاني منه في الزحام والتكدس ونقص الخدمات وضعف جودتها.

السكان ليسوا عددا من ليمون وإنما جوهرة في عنق الوطن.

لكن.. هذا المفهوم لم يصل إلي الناس.. وصلتهم مفاهيم أخري.. »‬المولود يأتي برزقه» رغم أن الأسرة التي أنجبته تعاني من البطالة.. »‬محدش بيبات من غير عشاء» ولو كان العشاء من صندوق القمامة.. »‬خليها علي الله» رغم أن الله يدعونا للتعقل قبل التوكل.

وبسبب ارتفاع نفقات المعيشة وزيادة عدد أفراد الأسرة عرفت مصر لأول مرة جريمة كانت غريبة عليها.. أب يقتل أولاده بعد أن عجز عن إطعامهم ثم ينتحر..

وجسدت السينما حالة سكوت الأب العاجز عن انحراف ابنته فليس بيده حيلة..

وبسبب العجز المالي ارتفع معدل الطلاق وضرب الزوجات وهجر العائلة والهروب من مسئوليتها.

إن العودة إلي حملات تنظيم النسل ضرورة حتي نؤمن لمن هم علي قيد الحياة مستوي أفضل من المعيشة والقيمة.

لنوظف الفضائيات ومحطات الراديو ومنابر المساجد والجمعيات الأهلية والنسائية في هذه الحملات التي سبق ان نجحت فيما قبل وانتكست فيما بعد وليس علي ما يبدو الرغبة والهمة في إعادتها من جديد.
وأخطر ما نعاني منه أن الميزة التي نتمتع بها يمكن أن تنقلب إلي عيب.. إن ثلث السكان  (34 في المئة) أقل من 15 سنة وهم في حاجة إلي تعليم متطور غير متوفر بل ويعاني ربعهم من الأمية (18 مليونا و434 ألفا) وتأتي محافظات الصعيد التي بدأت التطرف والإرهاب في المقدمة (المنيا 37 % وبني سويف 26% واسيوط 35 %).

وتزيد الأمية بين النساء عن الرجال بأكثر من سبعة في المئة وهو ما يعكس استمرار تدني النظرة إلي المرأة رغم أهميتها في تربية أولادها وعبقريتها في تدبير معيشة اسرتها بالدخل المحدود للزوج وتأثيرها السياسي علي الأحداث التي أدت إلي تخلص مصر من حكم الإخوان في 30 يونيو 2013.
وبجانب الأمية يأتي تسرب ملايين التلاميذ والطلاب من التعليم بإرادته أو بضغط من عائلته أو بسبب ظروف مالية أو لتكرار الرسوب أو الزواج أو العمل أو الإعاقة.

لقد بلغت نسبة المتسربين من التعليم بمراحله الثلاثة (ابتدائي وإعدادي وثانوي ) حوالي 7% كما أن 26% من السكان لم يلتحقوا بالتعليم أصلا.

وأعلي نسبة للأفراد الذين لم يلتحقوا بالتعليم في محافظات مطروح (40.2%) والمنيا (36.8 %) وبني سويف (34.8%) وشمال وجنوب سيناء (40.1%) ويمكن الربط بين رفض التعليم والميل نحو جريمتي التهريب والإرهاب وتجارة المخدرات.

إن الأميين والمتسربين يصل عددهم إلي أكثر من ثلاثين مليون شاب لا يملك واحد منهم ما يؤهله لعمل يتوافق مع احتياجات العصر التي تفرض خبرة بتكنولوجيا متغيرة ومعقدة ومتطورة.. بل.. ولا يعرف كيف »‬يفك الخط» ؟.

ويصعب علي الواحد منهم أن يجد لقمة العيش إلا ببيع مناديل الورق في إشارات المرور.

من جانبها أغلقت الحكومة أبواب التعيين في مصالحها بعد أن تضخم جهازها الإداري.. ووصل حجمه إلي أكثر من ستة ملايين موظف.. يستنزفون الجزء الأكبر من الموازنة العامة بلا إنتاج.. وثلاثة أرباعهم يمثلون بطالة مقنعة.. تعوق العمل.. وتدفع إلي الفساد.

ويحتاج القطاع الخاص إلي خبرات مميزة تتجاوز الشهادات ويكفي أن يطلب محاسبا أو محاميا أو عاملا ليتقدم إليه مائة ألف.

وفي كثير من المهن المتواضعة نجد خريجي الجامعات.. مدرس موسيقي يخدم في البيوت.. معلم لغة عربية يكسب من قص شعر الكلاب.. طبيب يفضل بقشيش العمل في المطاعم أو محطات الوقود أو شركات الأمن والحراسة.

فلا التعليم يؤهل الخريج للعمل في تخصصه ولا هناك فرصة لنيل وظيفة مناسبة ولو كان قادرا علي أدائها.

ولا شك أن عدم الاستفادة من خريجي الجامعات إلا في مهن متواضعة هو نوع من إهدار الموارد المالية والبشرية التي نعاني من قلتها وضعفها أصلا.

والمؤكد أن هذه المشكلة تزداد حدة وصعوبة مع ازدياد نسبة الحاصلين علي مؤهل جامعي فأعلي من 9.5% حسب تعداد 2006 إلي 12.4% حسب التعداد الأخير.

أكثر من ذلك تتفاقم ظاهرة الانتحار الجماعي في سفن الهجرة غير الشرعية التي تعاني كثيرا من المخاطر القاتلة بحثا عن فرصة تسلل إلي دولة أوربية للعمل فيها..

والحقيقة أن الدول الأوربية تعاني من نقص في السكان ونقص في العمالة.. ولكنها تريد عمالة عالية التدريب قادرة علي صيانة ما وصلت إليه من تقدم.. وهو ما لا يتوافر في المغامرين المتسللين إليها تحت جنح الظلام وبين قسوة الأمواج المتلاطمة الخانقة.
 
إن الكلام عن مراكز التدريب والتأهيل المهني ليس ترفا أو ثرثرة وإنما هو استثمار رفيع القيمة ننقل به ملايين العمال في بلادنا من عصر التروس إلي عصر الديجتال ومن زمن الفهلوة إلي زمن الخبرة والموهبة ومهما أنفقنا عليها فإن العائد الاقتصادي والاجتماعي لا حدود له.

لقد تحدثنا كثيرا عن ضرورة تلك المراكز وتحدثنا اكثر عن تطوير التعليم الفني بما يتوافق مع حاجة الصناعة الحديثة في مصر.

 وسبق أن دعمت المانيا مشروع »‬مبارك ــ كول» للتدريب المهني ليحقق نجاحا غير مسبوق في رفع كفاءة العمالة كما أن كثيرا من الدول الأوربية والأسيوية مستعدة لتمويل مشروعات مشابهة بل ومستعدة لمنح المتفوقين فيها الجنسية.

ورفع كفاءة العمالة يحتاج إلي استيعاب للتكنولوجيا الغائبة عن غالبية السكان في مصر.. صحيح أن أكثر من 75% منهم يستخدمون الموبايل لكن نفس النسبة من السكان لا تملك جهاز كومبيوتر ولا تستخدم الإنترنت بما في ذلك موظفي الحكومة مما أدي إلي تكدسهم في المكاتب دون فائدة تذكر.

ولا تزال مصر تعاني من الخلل في توزيع السكان فالمحافظات الأكبر مساحة (مثل شمال وجنوب سيناء والوادي الجديد) هي الأقل عددا فليس في جنوب سيناء مثلا سوي 2386 أسرة أما في شمالها فليس هناك سوي 9805 أسر بينما عدد الأسر في الوادي الجديد لا يزيد علي 58612 أسرة وفي اللحظة ذاتها تتكدس القاهرة بأكبر عدد من السكان (23456528 أسرة) يليها الجيزة (2596291 أسرة) وهو ما يعني أن المدن تستقطب السكان بحثا عن خدمات أفضل وفرص عمل أكبر.

وربما.. خففت العاصمة الجديدة من الضغط علي القاهرة.. وربما.. ساهمت المدن الجديدة القريبة من مثيلاتها القديمة في توزيع أفضل للسكان.. خاصة أن النيل وحده لم يعد مصدر الجذب الوحيد للرزق بعد أن تفوقت المناطق الصناعية علي المهن الزراعية.

وتمتلك 85.1% من الأسر المسكن الذي تعيش فيه بينما لا تزيد نسبة الإيجار القديم علي 7.9% وهي نسبة صغيرة سيتكفل بها الزمن ولا تحتاج قانونا جديدا وتقاربت معها نسبة الإيجار الجديد والإيجار المفروش وفي الوقت نفسه لا يزال في مصر من يسكن في أكشاك ومدافن وعومات.

ويلفت النظر سوء السلوكيات العامة في كثير من التصرفات التي لا تليق بحديثنا الذي لا ينتهي عن حضارتنا العريقة التي جعلت منا »‬أم الدنيا».

إن نصف السكان يلقون القمامة في الصناديق المخصصة لها أو يتركونها إلي متعهد يحملها نيابة عنهم ولكن النصف الآخر إما يحرقها (20 %) أو يلقي بها في الترع والمصارف (14%) أو يلقي بها في الشارع (19%).

ويبلغ إجمالي المباني في مصر 16185063 مبني يستخدم 68% منها في السكن ونحو 13% منها مباني خالية يمكن أن تحل أزمة السكن لو ضمن أصحابها أنها تعود إليهم إذا ما احتاجوها.

أما المباني العامة فيصل عددها إلي 13441068 مبني وهو رقم ضخم جدا ما يعكس تضخم الجهاز الإداري وأكثر من ربع هذه المباني يحــتاج إلي ترميم بسيط أو كبير مما يعكس ضعف الصيانة للحفاظ علي الممتلكات الحكومية وما يثير الدهشة أن 60% منها ليس به صرف صحي و10% ليس به مياه و88% ليس به غاز، كما أن 4.4 مليون مغلقة وهو ما يشكل جريمة إهدار للمال العام بالإهمال.

وفي الوقت الذي يؤمن فيه كل خبراء التنمية بأن الإنتاج هو الحل السحري لكافة مشاكلنا الاقتصادية نجد أن منشآت العمل (وعددها 6419784 منشأة) فيها ما هو مغلق مؤقتا (269094 منشأة) وما هو مغلق نهائيا (871265 منشأة) بجانب منشآت خالية يصل عددها إلي 626414 منشأة وهو ما يستدعي تدخلا عاجلا من الحكومة لعلاج مشاكلها وربما كان العلاج لا يكلف الكثير لكنه بالتأكيد سيعود علينا بالكثير.

لقد أسعدني الاهتمام الكبير بوصولنا إلي كأس العالم وهو ما يثير الفرح ولكننا لم نهتم بنتائج التعداد ولو بنسبة ضئيلة من الاهتمام الذي نوليه لكرة القدم.. إن مستقبلنا في رؤوسنا وليس فقط بين أقدامنا.