عمرو الخياط يكتب عن: الحرب الاجتماعية

الكاتب الصحفي عمرو الخياط
الكاتب الصحفي عمرو الخياط
صباح7 أكتوبر عام 1973 كانت مصر قد استقرت بإرادتها أعلى الضفة الشرقية بعدما سيطرت على مسرح العمليات، الانتصار المصرى أحدث صدمة للعالم الذى وقف مذهولا أمام السؤال الجوهرى الذى فرض نفسه »كيف تمكن المصريون من عبور الهزيمة نفسياً قبل عبور القناة عسكرياً؟!«.

وقتها وقف المتربصون بمصر محاولين فك ألغاز هذه الإرادة التى تمكنت من تحويل المستحيل إلى واقع فرض نفسه بقوة على أرض المعركة، ولابد أن هناك من هؤلاء المتربصين من أدرك أن هذا الشعب إذا حدد هدفه وامتلك إرادته والتف حول قيادته فإنه قادر على تحقيق المستحيل ولا يمكن كسره أو هزيمته، فكان القرار هو ضرورة الانهزام النفسى لهذا الشعب القادر على إنتاج هذه الإرادة، منذ ذلك الحين والحرب الاجتماعية بدأت مستهدفة الشخصية المصرية.

استهداف الشخصية المصرية اجتماعيا كان هدفه تشتيتها وإفقادها طريقها نحو وطنها وبالتالى اهتزاز مفهوم الانتماء للوطن داخل وجدانها فلا تصبح قادرة على امتلاك إرادتها والسيطرة عليها واستخدامها لخدمة وطنها وقت الحاجة إليها، إذن كانت الحرب الاجتماعية تهدف لتفكيك مفهوم الانتماء واستنزاف رصيد الوطنية الاستراتيجى الذى تراكم بعد نصر أكتوبر، التمهيد النيرانى لتلك الحرب الاجتماعية تم من خلال منهج تفكيكى طويل المدى ارتكز على ما يلى:


- دعم الثقافات الوافدة الناشئة حديثاً والإيحاء بقدرتها على مناطحة الثقافة المصرية الضاربة جذورها فى أعماق التاريخ.


تسطيح المنتج الفنى والثقافى والفكرى.

الاستهداف الشخصى للرموز الوطنية وتشويهها.

دعم الجماعات التى تحاول فرض هوية جديدة لتشكيك المجتمع فى عقيدته.

التشكيك فى انتصارات الوطن المصرى ونسج الأكاذيب حول كوّن انتصار أكتوبر نفسه قد تم باتفاق لتحريك المنطقة، حتى إن بعضهم اخترع مفهوماً جديداً بعنوان «حرب أكتوبر تحرير أم تحريك»، كما لو كانت هزيمة الجيش الإسرائيلى التى سيوثقها التاريخ يمكن أن تكون قد تمت باتفاق.

فرض صور ذهنية سلبية للرؤساء المتعاقبين كما لوكانت وظيفتهم فقط هى الانصياع للتبعية الأمريكية وخدمة المشروع الصهيونى.

دفع المواطن المصرى نحو الاغتراب داخل وطنه من خلال تضخيم حالة من الفساد والمحسوبية وانعدام تكافؤ الفرص والترويج لذلك بادعاء أن الدولة تمارسه عمداً ضد طبقات بعينها فى المجتمع.

تسطيح العملية التعليمية وغزوها بأنماط تعليمية أجنبية باعتبارها تعليماً راقياً.

فرض أنماط سلوكية غريبة بدءاً بتشويه العامية المصرية، وصولاً إلى استخدام المصطلحات الأجنبية المخالطة للعامية المصرية باعتبارها دليلاً على الرقى الاجتماعى.


على مدار أربعين عاماً والشخصية المصرية تتعرض لقصف اجتماعى مكثف.


عملية استهداف الشخصية المصرية التى تمت بشكل ممنهج أدت لما يلى:


شعور المواطن باليأس والإحباط وغياب العدالة.

فقدان الثقة بين المواطن وحكومته.

الشعور بانحياز الدولة لرجال الأعمال.

اللجوء إلى التدين الظاهرى الذى يفصل بين العبادات والمعاملات.

اختلال منظومة القيم والأخلاق.

انتشار ظاهرة المثقف النظرى المنفصل عن محيطه.

تراجع القدرة على تقديم القدوة.

اتساع الفجوة بين الأجيال وبالتالى تراجع قيمة الأسرة.

صعود القيم المادية والرغبة فى الإثراء السريع.


كل هذه النتائج أدت إلى خلل جسيم فى التكوين النفسى والذهنى للشخصية المصرية انعكس على علاقتها بمفهوم الدولة على نحو سلبى حاد بعدما تم إفقاده الشعور بأهمية هذه الدولة فى حياته.


عملت الحرب الاجتماعية منذ البداية على الدفع بأنماط ونماذج سلوكية وثقافية متضاربة بهدف تفتيت وحدة الذوق المصرى ووحدة المزاج العام وبالتالى منع أى مشروع يمكن الالتفاف حوله، بدأ من موجة الأغانى الهابطة التى استخدمتها طبقات معينة للتعبير عن هويتها التى تميزها عن باقى المجتمع، مروراً بحركة مسرحية مشوهة حولت قاعات المسارح إلى ما يشبه الملاهى الليلية، وصولاً إلى جمهور كرة القدم الذى تم تصنيف أحد طوائفه صراحةً بعبارة جمهور الدرجة الثالثة فتحولت العبارة من تعبير عن قيمة مادية إلى التعبير عن هوية اجتماعية لمرتادى تلك المدرجات، ثم انتقلت الحرب إلى ملعب الدراما المصرية التى قدمت نماذج سلوكية سلبية وربطتها بقيم البساطة والتواضع ودعمها مجموعات من الممثلين الذين عمدوا إلى بناء شهرتهم وانتشارهم من خلال تقديم أعمال فنية لإرضاء ذوق هذه الطبقة بتجسيد شخصيات جاذبة لها أو تستخدم أسلوباً يشوه العامية المصرية كنمط كوميدى، فخلقت نوعاً من الطبقية الثقافية والفنية التى زادت من حالة التفكك المجتمعى بعدما أدرك من يدير تلك الحرب أن مصر بلد اللا طائفية واللا قبيلة ولا يمكن تفتيته عقائدياً فوجه مجهوداته نحو عملية التفكيك المجتمعى.


ثم ازدادت شراسة تلك الحرب بالدخول فى مرحلة تشكيك المجتمع فى ثوابته العقائدية والدينية لتوسيع مساحات التفكيك والإمعان فى طمس الهوية حتى يمكن اعادة البناء المشوه بعد تسطيح الثقافة التاريخية القديمة للمجتمع المصرى.. وربما تمثلت مظاهر تصاعد شراسة الحرب فيما يلى:


أوائل تسعينيات القرن الماضى احتلت اهتمام الصحف ووسائل الإعلام ما تم فرضه على المجتمع من ادعاء بوجود مجموعات لما يسمى عبدة الشيطان، ولم يسفر الفحص حينها عن اعتناق عقائدى انما خلل اخلاقى ناتج عن غياب دور الأسرة.

تزايد الاحتفاء بظاهرة المشاهير من البلطجية وتقديم بعضهم كأبطال شعبيين ورواية أساطير عنهم لم تحدث أساساً.

صناعة حكايات درامية عن بعض رجال الأعمال باعتبار أن قوتهم ليست مستمدة بالأساس من ثرواتهم المتراكمة بل من قدرتهم على خرق القانون بالتواطؤ مع بعض كبار المسئولين فى الدولة.

الترويج لشيوع أنماط منظمة لجرائم زنا المحارم أو تبادل الزوجات.

ومؤخرا الزخم الإعلامى لحفل يروج للشذوذ على أرض مصر.

كل تلك الحالات تم تصنيعها لفرض نماذج مسلكية يمكن أن تحظى تدريجيا بنسبة (أى نسبة) من القبول فى المجتمع المصرى لزيادة الخلل الاجتماعى لوحدة المجتمع.

كل تلك النماذج والحالات نجحت فى استدراج المجتمع المصرى واقتياده إلى مساحة الخلل العقائدى التى تجيد الجماعات المتأسلمة الحركة فيها، وتستغلها فى العبث المنظم داخل العقول الشابة التى تعانى أزمة البحث عن الهوية المفقودة، بعدما توحى لها أن المخرج الوحيد من حالة الشتات هو العودة إلى مرجعية دينية تراثية والتخلى عن الهوية المحلية، لتجد تلك العقول نفسها أمام حالة منفصلة عن سياقها الزمنى تتطور بعد ذلك إلى  مرحلة منحهم لأنفسهم الحق فى تكفير المجتمع ثم  الحق  فى الوصاية على المجتمع والاستعلاء عليه، كما تضع الدولة والمجتمع كله موضع المتهم المفرط فى صحيح الدين، وتستمر تلك الحالة فى التطور وصولا إلى ترسيخ مفهوم أن الدولة الحالية ما هى إلا كيان بشرى نشأ لتعطيل وإعاقة انتشار الدين وبالتالى فإن حربها عمل شرعي جائز.

التوصيف على النحو المشار إليه وأمام هذه الحالة فإن المسئولية الوطنية تستوجب على الجميع أن يتصدى لدوره فى إنقاذ أبنائه وأحفاده، تستوجب على الجميع الالتفاف حول دولة القانون والإصرار عليها، تدعو إلى مشروع قومى لحفظ الهوية المصرية، تستدعى حركة ثقافية عاجلة مستندة لرصيد مهول من المعرفة، ذلك لأن محاولات فرض أى هوية وافدة لن تنجح إلا على أنقاض الهوية الأصيلة للدولة المصرية التى تقوم أساسا على التنوع والتعددية والتى يجب أن يحفظ بقاءها إطار قانونى محدد وملزم للجميع.