ياسر رزق يكتب : «مصيدة العَوَزْ».. والدولة الفاشلة

الكاتب الصحفي ياسر رزق
الكاتب الصحفي ياسر رزق

سألت نفسى وأنا استمع إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى يوم الثلاثاء الماضى أمام مؤتمر الشباب بالإسكندرية: لماذا يتحدث الرئيس عن «الدولة الفاشلة»، بينما تبدو مصر تخطت هذا المصير، وأخذت تعدو على طريق مرسوم نحو دولة ناهضة اقتصاديا، مقتدرة عسكريا، مستقرة أمنياً، متماسكة اجتماعياً؟
تساءلت: لماذا يثير الرئيس أحاسيس القلق، فى وقت تعودنا منه أن يبث مشاعر الأمل؟
ثم وجدتنى أمسك القلم وأرد على تساؤلاتى بأسئلة أظن فيها بعض الإجابات!
- هل تحاك مؤامرات الإفشال ضد الفاشل أم الناجح؟
- هل توضع مخططات التقسيم، لتفتيت المقسَّم أم الموحد؟
- هل يراد شق الصف فى حالة التشرذم أم الاصطفاف؟
- هل استطاعت ثورة 30 يونيو القضاء قضاء مبرما على مخطط إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، ومنه إسقاط الدولة المصرية واقتضام بعض أراضيها فى سيناء وغيرها؟.. أم أنها تمكنت من تعطيل المخطط بعض الوقت، وربما يعاود أصحابه الكَرةّ علينا؟
- هل رضخ الذين دمروا العراق وخربوا سوريا واستباحوا ليبيا للمقاومة التى أبداها الشعب المصرى وجيشه فى مواجهة محاولات إسقاط الدولة المصرية أو على الأقل إفشال الدولة خلال السنوات السبع الماضية، فقرروا تركها لحالها تجاهد وتنجح فى بناء دولة مدنية حديثة؟
- هل إسرائيل مغتبطة بنجاة مصر من مصير العراق وسوريا، بينما هى تعرف قبل غيرها، أنه لو كانت مصر لاقت مصير بعض أشقائها، ما كانت هناك قضية اسمها فلسطين، ولكانت ساحة المسجد الأقصى تُمهد لبناء الهيكل الثالث، وسط صيحات استهجان فضائية- فى أحسن الأحوال- هى كل رد فعل فارس واردوغانستان؟!

•  <  <

يعلم السيسى قبل غيره بالقطع أن دعائم الدولة المصرية قد استعادت ثباتها، وأنها ترسخت أو كادت، فهو الذى وضع «خطة التثبيت» لمدة 4 سنوات ونفذ مراحلها.
لكنه يعرف بالطبع، أن الضربات لا توجه وبعنف إلى دولة انهارت ركائزها، أو تداعت مفاصلها!
يعى السيسى أكثر من غيره بطبيعة الحال، حجم القفزات التى حققناها على طريق بناء الدولة العصرية على مسارات مختلفة، بالأخص فى مجال أمن المواطن وتأمين البلاد، وفى مجال البناء والتشييد وإنجاز المشروعات القومية الكبرى والطرق والمرافق وغيرها كثير، فهو مفجر المشروع الوطنى لبناء الدولة المصرية الحديثة الثالثة.
لكن السيسى وهو ينظر إلى المستقبل، يستحضر التاريخ ويعتبر من دروسه. أبرزها يقول إنه كلما نهضت مصر أو كادت، وكلما تمددت واتسع تأثيرها فى محيطها، اشتدت عليها مؤامرات الاجهاض والاسقاط، ومخططات التقويض والإفشال.
يدرك السيسى وهو صاحب عبارة «الدولة الحديثة الثالثة»، أن الدولة الأولى التى أقامها محمد على ضُربت فى ذروتها، حين تكالبت عليها القوى الكبرى فى ذلك الوقت، وأجبرت مصر على توقيع معاهدة لندن عام 1840 التى  أنهت مشروع محمد علي، وعاصر السيسى ذروة وأفول الدولة الثانية التى أقامها جمال عبدالناصر، حين انقضت عليها قوى الاستعمار، وضربتها وهى فى عنفوانها بعدوان 1967 الذى انهى مشروع عبدالناصر.
لذا يحق للسيسى أن يقلق ويقلقنا معه، وأن يتحسب ويدعونا للتحوط، وأن يحاذر ويطالبنا بالاصطفاف واليقظة.
فالطريق وإن كان هو الصحيح، نحو المقصد والمبتغي، غير مأمون العثرات، والعراقيل، والمنحنيات.. وأيضا قُطاع الطرق!.

<  <  <

مثلما تحدث السيسى منبها إلى الحذر من محاولات إفشال الدولة، تكلم أيضا عن «مصيدة العَوَزْ».
رؤية السيسى ملخصها: «إذا أردت إفشال دولة جُرّها إلى «مصيدة العَوَزْ»، وكلما اتجهت الدولة أكثر نحو الفشل، صار شعبها أشد عوزا، وأصبح مصيرها المحتوم هو السقوط.
تعبير إسقاط الدولة سمعته من اللواء عبدالفتاح السيسى فى بواكير أيام ثورة يناير حينما كان مديرا للمخابرات الحربية. كانت هذه هى المرة الأولى التى تصل إلى مسامعى هذه العبارة من أحد أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ويومها كان الجيش هو عمود الدولة الوحيد الذى يمنع سقوطها على رأس الجميع.
وعرفت منه فى ذلك اللقاء عن تقدير الموقف الذى قدمه قبيل ثورة يناير بتسعة أشهر، إلى القائد العام- وقتها- محذرا من أن اجتماع مثلث تردى الأوضاع الاقتصادية، ومساعى توريث الحكم، وتوقع تزوير الانتخابات البرلمانية عند حلول موعدها فى نهاية ذلك العام، سيؤدى حتما إلى انتفاضة شعبية عارمة، سيضطر الجيش معها إلى النزول. وحينما سأله القائد العام: وكيف ترى موقف الجيش حينئذ؟.. قال: بالقطع.. لن نطلق رصاصة واحدة.
نزل الجيش فعلا، وأعلن عن موقفه عملا وقولا، وأصدر بيانا يوم الأول من فبراير باسم القيادة العامة للقوات المسلحة يعبر فيه عن تفهم الجيش للمطالب المشروعة للشعب، وتعهده بأنه لم ولن يطلق رصاصة واحدة على أبناء شعبنا العظيم.
.. وكان هذا هو الدرع الأول لإحباط مخطط إسقاط الدولة المصرية الذى كان فى مقدمة أغراض أصحابه، فهم العلاقة السرمدية بين الشعب وجيشه.
فى مكالمة تليفونية بعد ذلك.. عرفت من اللواء السيسى أن الجيش المصرى سارع بدفع قوات كبيرة إلى سيناء ليلة 28 \29 يناير 2011، للحيلولة دون نجاح مؤامرة خارجية/ داخلية، بدأت بتدمير منشآت أمنية وشرطية فى العريش، بهدف اقتطاع جزء من شمال سيناء خارج سيطرة الدولة، لإظهار الجيش بمظهر العاجز أمام الشعب عن الحفاظ على سيادة الدولة على اقليمها وعن صون أراضى الوطن.
وكان هذا هو الدرع الثانى أمام محاولات إسقاط الدولة المصرية وهى فى حالة سيولة كانت تكتنف البلاد والسلطة فى ذلك الحين.
الأمثلة على ذلك كثيرة ،والوقائع كثيرة، وغير المعلن منها أكثر!
وأذكر أننى سمعت تعبير «العوز»، من اللواء السيسى لأول مرة خلال لقاء جمعنى معه فى مكتبه بإدارة المخابرات الحربية، بعد شهور عديدة من قيام ثورة 25 يناير.
يومها سألته: هل تعتقد باحتمال موجة ثانية، ونزول الشعب مجددا إلى الشارع.. ومتى يمكن أن يحدث ذلك؟
أجاب بهدوء: أخشى من «ثورة عوز».
قلت: تقصد «ثورة جياع»؟
رد مصححا: «العوز» ليس فقط هو الجوع إلى الطعام، إنما هو فقدان الأمان والكرامة والأمل.

<  <  <

فى ثورة 30 يونيو، استعدنا الأمان، واسترددنا كرامة الوطن وهويته، وأحيينا الأمل الذى كان موءودا فى قلوبنا.
لكن ظل أمام ناظرى السيسي، شبح «مصيدة العوز»، يسعى بكل ما أوتى من فكر وجهد وقدرة على القيادة، لتجنب الوقوع فى حبائلها دولة وشعبا.
كانت الأوضاع الاقتصادية تطلق إشارات إنذار بأن كل ما تحقق من أمن وأمان، وكل ما أنجزناه من مشروعات كبري، وكل ما قطعناه من خطوات على طريق بناء الدولة المصرية الحديثة، وكل ما تفتح أمامنا عن آفاق أمل ازاء المستقبل القريب، مهدد بشدة إذا استمررنا فى مسارنا على نفس النهج الاقتصادي، دون اتخاذ إجراءات إصلاح جذرية، تجنبنا السقوط فى براثن مصيدة العوز الاقتصادي، وفقدان المنعة فى مواجهتنا لمحاولات إفشال الدولة.
فى ذات الوقت.. كانت التقديرات الامنية تحذر من أن كل ما تحقق نتاجاً لثورة 30 يونيو ومشروعها الوطني، وما يحظى به الرئيس السيسى من شعبية عرضة للخطر، فى حال اتخاذ إجراءات الإصلاح الجذرية، ومن ثم تكون البلاد على شفا مصيدة العوز بأشكاله المختلفة، ونفتح ثغرة أمام نفاذ محاولات تحويل مصر إلى دولة فاشلة.
تجارب السابقين من حكام مصر، كانت ترجح الأخذ بالتقديرات الأمنية، وعدم اتخاذ إجراءات الإصلاح، أو على الأقل إرجاءها إلى فترة رئاسية ثانية.
غير أن تجربة السيسى مع شعب مصر، كانت تدفعه دفعا إلى المضى قدما نحو اتخاذ تلك الخطوة، مصحوبة بأكثر ما يمكن القيام به من اجراءات لتخفيف العبء عن الطبقة الوسطى وحماية الطبقات محدودة الدخل والفقيرة.
ليس السيسى عزوفا عن الاحتفاظ بشعبيته الهائلة التى اكتسبها يوم الثالث من يوليو عام 2013، لكنه يعلم أن تلك الشعبية حظى بها لأنه كان مخلصا وأمينا مع الشعب فى حاضره، ويدرك أنه لن يفقدها- وإن فترت سخونتها بعض الوقت- إذا كان مخلصا وأمينا معه فى مستقبله.
كان السيسى يعرف يقينا أنه يظلم مستحقى الدعم لو أبقى على سعر الوقود مدعوما يستفيد منه من يملك سيارة وأكثر على حساب الذين لا يملكون، وعلى سعر الكهرباء مدعوما يستفيد منه من يمتلك قصورا وفيلات مجهزة على حساب الذين لا يمتلكون، كان يعرف أنه لابد أن تتأثر معيشة أبناء الطبقة المتوسطة، ومحدودى الدخل حتما من آثار ترشيد دعم الطاقة لفترة زمنية، لكنه كان يدرك أن الإبقاء على صورة الدعم دون تغيير، لن تمكنه من زيادة الأجور والمعاشات وإجراءات الحماية الاجتماعية الأخري، لتقليل حدة الآثار المؤقتة لخطوات الإصلاح الاقتصادي، ولن يمكنه من الانفاق على تطوير التعليم والصحة والمرافق.
كان السيسى يعلم بالآثار الجانبية لتحرير سعر صرف الجنيه على أسعار المنتجات الغذائية لأن معظمها مستورد، لكنه كان يدرك أن هذا القرار النقدي، هو السبيل لجذب الاستثمار وتشجيع الصناعة والزراعة ومضاعفة الصادرات الصناعية والزراعية وتنشيط السياحة إلى مصر برغم ما تتعرض له من استهداف، ومن ثم زيادة فرص التشغيل للمواطنين، والحد من البطالة وتحسين معيشة الأسر التى تنفق على أبنائها العاطلين بعد توافر فرص عمل لهم، وبالتالى خفض معدل الإعالة فى الأسرة الواحدة.
الأهم أن السيسى  كان يؤمن بأن الإصلاح الاقتصادى هو السبيل الحقيقى لتجنب السقوط فى «مصيدة العوز»، ومجابهة محاولات افشال دولة تنطلق على طريق النجاح.
وحينما سئل: ألم يكن هناك بديل لإجراءات الإصلاح التى تسببت فى غلاء الأسعار؟!
رد بإجابة حاسمة فى وضوحها: وهل يظن أحد أنه لو كان لدينا بديل، كنا اتخذناها؟
لا يقتصد السيسى فى الثناء على وعى شعب مصر وصبره وصلابة معدنه،  كلما تحدث  هنا فى مصر، وحتى حينما يسمع فى الخارج من زعماء الدول اشادة بإجراءات الإصلاح الاقتصادى المصرية، فإنه يرجع الفضل فيها للشعب الذى يتحملها على مرارتها وصعوبة تبعاتها.
لذا يضع الرئيس قضية غلاء الأسعار، فى صدارة التحديات التى ينبغى مجابهتها، ليس فقط على المدى القريب من خلال إنشاء مزارع الماشية التى ستضم مليون رأس، ولا مزارع صوبة المليون فدان، التى سيفاجئنا بها فى غضون شهور، وهى غير مشروع المليون ونصف  المليون فدان التى يجرى استصلاحها، وانما أيضا على المدى العاجل عبر إجراءات غير تقليدية لضبط الأسواق وخفض أسعار السلع، بجانب علاوات الأجور والمعاشات التأمينية والضمانية التى بدأ صرفها هذا الشهر.

<  <  <

لست قلقا من نفاذ مؤامرات إسقاط الدولة، مادام فيها هذا الجيش.
ولست قلقا من نجاح محاولات إفشال الدولة، مادام فيها هذا الشعب.
ولست قلقا من إجهاض مشروعنا الوطنى والسقوط فى «مصيدة العوز»، مادام فينا هذا القائد.
فقط.. الوعى لازم والحذر واجب، ووحدة الصف فيها كل الوقاية.