بعد20يوماً من النكسة..»رأس العش« بداية هزيمة الجيش الإسرائيلي

جنديان مصريان من فصيلة الصاعقة يتفقدان مجنزرة للعدو تم تدميرها
جنديان مصريان من فصيلة الصاعقة يتفقدان مجنزرة للعدو تم تدميرها
يوم السبت المقبل ذكرى مرور نصف قرن على يوم خالد كتب فيه المصريون في سجل التاريخ صفحة فخار سجلها الشعب والجيش معا، حين رفضوا هزيمة زائفة حاول إلصاقها بهم قادة الجيش الإسرائيلى الذين كانوا يدّعون أنه جيش لايقهر.

 فإذا بالشعب المنتفض يهب ليدافع عن كرامته ويمد يده لجنوده يعيد لهم العزم ويشحذ هممهم على القتال "ليمرمطوا" كرامة جيش إسرائيل بعد 20يوما فقط من هدنة الحرب التي أشاع أنه قضى بها على جيش مصر للأبد فإذا بفصيلة واحدة فقط منه تهزم قوات جرارة أرسلتها إسرائيل لتحتل بها بورفؤاد وتردها على أعقابها في معركة "راس العش" ليلة الجمعة/السبت التي وافقت 30من يونيو/أول يوليو عام1967فتكون انعطافة هامة في مسيرة الصراع العربى الإسرائيلى أحدثت آثاراً بالغة أعادت روح الانتصار لمصر كلها وكانت بداية حرب الاستنزاف وأول خطوة لسقوط العدو فى هاوية الانهيار النفسى اللذان قادا لانتصار أكتوبر المجيد .                                                                     
   و"رأس العش" هى موقع من ثلاثة مواقع لمحطات إرشاد السفن العابرة لقناة السويس مقامة على الضفة الغربية منها وتبعد عن بورسعيد 14 كيلو مترا وفى مواجهتها على الضفة الشرقية مجموعة أحراش وسهل طينى يمتد فيه  لسان من أرض رخوة عرضه يتراوح بين 40 إلى 60 مترا يصل بين بورفؤاد والقنطرة شرق بطول 45 كيلومترا وهذا المكان هو الموقع الذى دارت فيه معركة الساعات السبع فى محاولة من الاسرئيليين لاحتلال مدينة بورفؤاد لتكتمل لهم السيطرة على شبه جزيرة سيناء كلها وتقع بورسعيد أسيرة لنيران مدافعهم حتى يمكنهم احتلالها فى الوقت الملائم .
سنصل لكم حالا
 ويقول الإعلامى صلاح طايل الذى كان وقتها مديراً لمكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط بمنطقة القناة أن إسرائيل كشفت عن نيتها تلك منذ اليوم الأول لوصولها إلى ضفة القناة بمدينة القنطرة شرق حيث كان مرافقاً لنقيب المخابرات طاهر الأسمر الذى كُلِفَ بتنظيم قوات للدفاع الشعبى بالمنطقة . ومن مئذنة الجامع المواجه لمعدية القنطرة استطاع رؤية جنود العدو فى اليوم التاسع من يونيو وهم يحتشدون بجوار مرسى المعدية غير عابئين بالهدنة التى أعلنت فى ذات اليوم حيث كانت كل آلياتهم متجهة صوب الشمال إلى بورسعيد ، وأبلغهما جندى مصرى عائد من سيناء أن ضابطة إسرائيلية برتبة نقيب سمعته يدلى بمعلومات لمندوب الصليب الأحمرعرفت منها أنه من بورسعيد فنادته ومن برج دبابتها صاحت بغطرسة " أنا بنت شالوم تاجرالدهب اللى كان محله بالشارع التجارى انتظرنى فى كازينو جيانولا وسنصل لكم حالا "!.
بداية فصيلة الصاعقة
وانتقل نائب رئيس المخابرات عبد الفتاح ابو الفضل للإقامة ببورسعيد لإعداد قوات مقاومة شعبية كما فعل خلال العدوان الثلاثي فى ديسمبر 1956وذات صباح فى منتصف يونيو1967توقفت بجوارى سيارة فيات أطل منها أبو الفضل وسألنى إنت ضابط الاحتياط الجمّال ولما أجبته بالإيجاب أمرني بركوب السيارة التى كان يقودها معاونه مصطفى سحيم وصحبانى إلى إستاد بورسعيد الموجود به كتيبة الجامعة التي تشكلت من طلبة المدينة بالجامعات المختلفة حيث كلفني بتدريب أفرادها وقيادتها مع العمل على تكوين كتيبة أخرى من شباب المدينة لحمايتها. وتلقيت أمراً من أبو الفضل بسرعة تجهيز مأوى لحوالى30 جنديا ىسيصلون من الجبهة وعلى كتيبتي نقل بعض المعدات والأسلحة لهم من مكان سأُخْطَر به وأتممت المهمة قبل ليل الاربعاء28يونيو1967بمساعدة حكمدار الكتيبة الطالب مصطفى كراوية  باستخدام سيارة عائلته تحت قصف جوى .
العبور على جثثكم
هؤلاء الجنود كانوا فصيلة الصاعقة التي استطاعت العودة من سيناء وأسند لها مهمة التحرك لجنوب بورسعيد أمام محطة إرشاد"رأس العش"والانتقال إلى منطقة الأحراش شرق قناة السويس بحرص شديد مع أسلحتهم الخفيفة بدون معدات في لنش صغير أعدته لهم هيئة القناة .
 وكان الملازم تحسين عبد القادر قد طلب العاشرة صباح الجمعة30 يونيو من الفصيلة جمع كل أفرادها بمنتهى السرعة لوجود معلومات ان اليهود يستعدون للعبور إلى بورفؤاد .
 وبعد سويعات قليلة بدأ 18جندى فقط  بسلاحهم الشخصي تحت قيادة الملازم فتحى عبد الله التحرك، وهناك على الضفة الشرقية للقناة أمام"راس العش" تسلموا أمر القتال الذى يقضى بمنع عبور العدو إلى بورفؤاد إلا على جثثهم . 
وبدأ الرجال على الفور يحفرون بأياديهم المجردة وبسناكى البنادق ومؤخراتها حُفَراً برميلية كخط دفاع لهم أمام العدو الذى كان يرقبهم من مسافة200 متر فقط . 
ولحق بهؤلاء الجنود عند الرابعة عصراً دعمٌ متمثل فى مدفع مضاد للدبابات مع طاقمه المكون من 3 أفراد ورشاش خفيف مع 4 أفراد ورشاش متوسط بذخيرة 250طلقة مع فردين من سرية المعاونة وجهاز لاسلكي مع 4 أفراد من سرية الإشارة وتسلل أفرادٌ من المهندسين العسكريين فزرعوا المنطقة بين الفصيلة والعدو بالألغام ، وعلى الضفة المقابلة غرب القناة كانت هناك فصيلة هاون بقيادة الملازم نادر عبدالله تقبع خلف برج الإرشاد بينما يوجه طاقمه للهدف المراد إصابته أحد أفراد الاستطلاع تسلق خزان مياه خرسانى .
 واختبأت غربا على طريق المعاهدة الذى يربط بورسعيد بالقاهرة فصيلة أخرى ضمت26مقاتلا بقيادة النقيب سيد أمبابى لدعم الفصيلة المقاتلة شرقاً .
سكان بورفؤاد على الأرصفة
ومنذ ظهر يوم الجمعة ساد مدينة بورفؤاد توتر شديد لانتشار أخبار بأن اليهود يعدون أنفسهم لاقتحام المدينة ، وبالفعل قبل المغرب بقليل انطلق ميكرفون الجامع الكبير يعلن أن على سكان المدينة إخلاءها فورا والاتجاه إلى بورسعيد ورفض الجميع حتى انطلقت صفارات الإنذار وزَحَفَ الظلام مخيفاً فتدافعت السيدات إلى المعديات بأطفالهن ليبيتوا الليلة على الأرصفة القريبة بينما أصر عدد كبير من الرجال وبعض الفتيات على البقاء بمدينتهم للدفاع عنها حتى ولو"بالشوم"! ووقف شباب المقاومة ظهيراً للجيش ليتفرغ لمهمته كما يقول عبدالسلام الألفى المتطوع بكتيبة الجامعيين ويكمل زميله سمير معوض أنهم توزعوا على مهام تضم معاونة قوات الجيش المقاتلة فى الجنوب وحماية مجرى القناة وترسانة بورفؤاد البحرية بقنابل الأعماق تحسباً لهجوم ضفادع بشرية محتمل يطعن قواتنا من الظهر. 
بدء الهجوم الإسرائيلي
سجلت مصادر عسكرية أن قوات العدو المهاجمة كانت فى البدء كتيبة مشاة ميكانيكى محملة على6عربات مجنزرة و6 لوريات محملة بحوالى200جندى مدججين بأسلحة متنوعة وسرية دبابات مكونة من10دبابات وعربتى جيب للقيادة مع معاونة من سرية طائرات خفيفة .
 ويصف حكمدار فصيلة الصاعقة المصرية الرقيب حسنى سلامة فى منشورات مجموعة 73مؤرخين المعركة فيقول أن اليهود قاموا عصراً باستطلاع موقعنا بطائرة خفيفة كان قائدها يشيرلنا مهدداً بالذبح، ومع آخر ضوء قبل الغروب بدأ العدو يفتح نيرانه علينا ووجهت دباباته قذائفها نحونا ثم تحولت للفصيلة المساندة لنا على طريق المعاهدة التى استطاعت مع الألغام وقف الهجوم لمدة 3 ساعات حتى نفذت ذخيرتها ففتح جنود العدو ممراً بين الألغام المزروعة تقدمت دباباته عليه نحونا بعد أن هدمت خزان المياه الخرسانى فتوقفت معاونة فصيلة الهاون لنا . حبسنا نيران أسلحتنا حتى دخلت الدبابات مدى مدافعنا المضادة لها فأطلقناها لندمر ثلاث منها وعدداً من حاملات الجند المجنزرة وسمعنا صراخ القتلى والمصابين الذين قفزوا من الآليات فحصدهم رصاص بواسل الفصيلة مما أفقد القوة المهاجمة توازنها فتقهقرت للخلف ونحن نلاحقها بالنيران لتزداد إصابة المعدات وسقوط الأفراد . بعدها حاول العدو الالتفاف بقوارب مطاطية عبر مياه القناة مستغلا الظلام ليهاجمنا من الخلف ولكن نيراناً كثيفة من رشاشاتنا كانت في انتظاره لتبيد معظم جنوده فاضطر للانسحاب وسمعنا أصوات جنازير الدبابات المتبقية تُقْفِل راجعة تجاه القنطرة شرق .  
اليهود فى قبضة المصريين
لم يترك الجيش المصرى القوات الإسرائيلية المهاجمة تهرب من قبضته ففتح مدفع ساحلي من موقعه على شاطئ بورسعيد أمام قشلاق السواحل نيران قذائفة المدمرة ذات خط المرور العالي على المواقع التى حدد إحداثياتها رجال الاستطلاع بجدارة   فزادت خسائر العدو خاصة مع سقوط القوات المتقهقرة فى كمائن تمركزت غرب القناة عند مواقع محطتي الإرشاد في الكاب والتينة  نصبتها لهم قوات المساندة من الكتيبة 43 صاعقة بقيادة الضابطين عبدالوهاب الزهيرى وخليل جمعه لمنع ارتداد اليهود لمواقعهم الأصلية أو معاودة الهجوم على مواقعنا . 
وانتهت المعركة الخامسة فجراً لكن فى الصباح حاول العدو معاودة هجومه فتلقى مجدداً درساً عنيفاً رفع خسائره إلى 6 دبابات و9 مجنزرات وعددا من اللوريات وعشرات القتلى والمصابين فارتد مدحوراً يلملم خسائره وينسحب لقواعده . واستشهد فى معركة راس العش الملازم محمود الجزار والجنود صلاح الدين محمود ومحسن البطيح ومحمد عثمان ومحمد واصل فيما أُصيب الجنود محمد سويد والسيد مهنى وعاشور العوى وسعيد على .  وطبقاً لتقارير خبراء دوليين فإن نتائج هذه المعركة لم تقف عند حد إلحاق خسائر بشرية وعسكرية ومادية بإسرائيل بل تعدتها إلى خسائرمعنوية وأدبية ونفسية عميقة جعلتها لا تجرؤ بعد ذلك ولو لمرة واحدة على التحرك مقدار بوصة فقط  تجاه بورفؤاد أو أن تعيد التفكير فى مهاجمة بورسعيد حتى بعد أن أقامت خط  بارليف الحصين . 
ناصر يتابع باللاسلكي
وقد أمر الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يتابع المعركة عبر محطة اتصال هيئة قناة السويس اللاسلكية بترقيات استثنائية  لجميع أفراد الموقع المصري وكان ذلك الساعة الواحدة فجر السبت أثناء احتدام القتال وطلب من قائد الكتيبة الرائد السيد الشرقاوى إبلاغ ذلك فوراً للأبطال فارتفعت معنوياتهم وزاد إصرارهم على التشبث بالأرض وعدم مرور العدو إلى بورفؤاد . 
وعندما انتهت المعركة طلب الرئيس مقابلة بعض رجالها فأمرهم قائد الكتيبة بالعبور إليه سباحة وأخرجهم بنفسه من الماء ليرسلهم على الفور إلى القاهرة حيث قلدهم الزعيم أنواط الشجاعة التي منحها لهم . 
واحتلت قوة مصرية بقيادة ضابط  الصاعقة تيسير الطوبجى الموقع وحصنته حتى لايفكر العدو في تكرار تجربته الفاشلة . ويذكر صلاح طايل أن الرئيس عبد الناصر وجه بإقامة صلاة الجمعة فى ذات الموقع يوم الجمعة التالي مباشرة وقد حضرها الزميل الإعلامي حيث رأى جنود العدو على مرمى حجر يشهدون الصلاة وتصل لأسماعهم خطبة الجمعة التي كان يلقيها وزير الأوقاف د. عبد العزيز كامل . 
ويتابع أنه خلال زيارته للولايات المتحدة وجد وثائق عسكرية بالمكتبة العامة بواشنطن تصف معركة "رأس العش"وتحللها وتشير لانتهائها بانتصار المصريين وهزيمة الإسرائيليين في أول معركة التحما مباشرة فيها خلال الحروب الطويلة الدائرة بينهما، كما وجد مثل ذلك بالمكتبات الرسمية في ملبورن وسيدنى باستراليا.