ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب : صندوق السيسى المغلق.. وسيد المفاتيح

الكاتب الصحفي ياسر رزق
الكاتب الصحفي ياسر رزق


ثمة أيام لها ما بعدها تفتح طريقاً، وثمة كلمات لها ما وراءها ترسم مستقبلاً، وثمة مواقف لها رجالها تكتب تاريخاً.
من ذلك ما جرى قبل 48 شهراً مضت.


فمنذ 4 سنوات بالضبط، بالتحديد يوم 23 يونيو عام 2013، تعرَّف عموم الناس على رجل شاءت الأقدار أن يرتبط بهم وأن يرتبطوا به، وأن تعلق عليه معهم مسئولية إنقاذ وطن وبناء مجد أمة.


كان ذلك أثناء الندوة التثقيفية الخامسة للقوات المسلحة حين تحدث الرجل عبدالفتاح السيسى مخاطباً كل المصريين.


قبلها بعشرة شهور عرف المصريون اسم الرجل لأول مرة، حين تولى منصب القائد العام للقوات المسلحة يوم 12 أغسطس 2012. لم يكن يعلم باسم هذا القائد العسكرى إلا القلة، فقد كان يشغل منصب مدير إدارة المخابرات الحربية، أى رجل الصمت والسرية. ولم يكن التقى به من المدنيين إلا النخبة فى ظروف ما بعد ثورة 25 يناير 2011.


يومئذ، وأمام قادة الجيش فى مسرح الجلاء قبيل سبعة أيام من الموعد الذى توافقت عليه الجماهير للخروج رفضاً لنظام الإخوان وحكم المرشد، وقف السيسى يعلن عن مهلة لـ»الجميع« قاصداً السلطة السياسية، مدتها أسبوع للاستجابة لإرادة الشعب، وشدد فى كلمته باسم القوات المسلحة على أن إرادة الشعب وحده هى التى نحترمها ونرعاها بكل تجرد وشرف وأمانة.


ثم أطلق السيسى صيحته التى هزت الوجدان المصرى، وصارت عنواناً لشخصيته، وشكلت اللبنة الأولى لبطولته، وباتت رمزاً لالتحام الجيش بجماهير الشعب، حين قال بالحرف: «أى مروءة نعيش بها فى القوات المسلحة ضباطاً وضباط صف، لما نشعر أن الشعب المصرى كله مروع وخايف؟!.. إحنا نروح نموت أحسن!».


• < <


يقول سقراط: «تكلم حتى أراك».. وفى ذلك اليوم تكلم السيسى ورآه كل الناس فى مصر وخارجها.


ويقول إمام المتقين على بن أبى طالب: «الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام».. وحين تكلم السيسى انفتح صندوق شخصيته، الذى كان مغلقاً على عموم المصريين، فى أيام ما أصعبها، وعند مفترق طرق ما أخطره.


لشخصية السيسى أو صندوقه المغلق مفاتيح كثيرة، كالوطنية الفياضة، والشرف، والكبرياء، والأمانة، والتجرد، والصدق مع النفس والناس والخالق.


غير أن سيد مفاتيح شخصيته هو الاستقامة.


الخط المستقيم هو نهج السيسى فى التعامل مع الناس، مع أبناء الوطن، ومع غيرهم قادة كانوا أم أفراداً، هو مسلكه فى العمل، ومنهجه فى الإنجاز، وهو ما يطلبه من الآخرين، استقامة القول والفعل.


عجيب أن تكون شخصية هذا الرجل مفتاحها الاستقامة، بينما مبادئ عمله فى ميادين القتال كمقاتل وقائد، أساسها المناورة، والاقتراب غير المباشر، والتخفى، والخداع. فالحرب فى أدق أوصافها.. خدعة!


الاستقامة هى دافع السيسى لأن يذهب بكل قلبه، حين يقرر أن يذهب.


يُقدِمُ بكل عزم، غير هيَّاب، لا يلوى على شىء، مادام يعرف الوجهة، ويدرك الطريق، ويعلم أنه الدرب السليم.


لا تثنيه عن سبيله اعتبارات خاصة، أو نوازع إنسانية شخصية، مادام يؤمن أنه الأقرب للمقصد، والأصح لمصلحة الوطن.


استقامة السيسى فى القول والعمل والموقف، هى الوجه الآخر لتجرده إلا مما يصون وطنه ومقدرات شعبه.


هى مرادف وضوح رؤية تجاه هدف، مبنية على فكر ودراسة واستلهام دروس تاريخ وقراءة لمعطيات واقع ومتغيرات أوضاع.


إذا أردت أن تختبر مفاتيح صندوق السيسى وسيد هذه المفاتيح، أعد قراءة كلامه على مدى 4 سنوات مضت، وقارنها بقراراته، لن تجده بدَّل مغاليقها.


وإذا رغبت أن تستشرف قراراً له فى المستقبل، عُد إلى مواقفه الحاسمة فى أمور كانت تبدو بسيطة، واسترجع ردود أفعاله على أزمات عويصة اقتحمها بثبات أعصاب ورباطة جأش.


ولنسترجع فى الذكرى الرابعة لأسبوع الحسم فى تاريخ مصر.. بعضاً من مواقف صاحب الاستقامة والتجرد والرؤية السديدة، ففى التذكرة هداية إلى الطريق، وفى العبرة أنوار كاشفة لأصحاب البصائر.


< < <


حين انتهت مهلة الأسبوع التى أعلنها السيسى يوم 23 يونيو 2013، فوجئ المصريون أن يوم الثلاثين مضى دون أى بيان برغم الثورة العارمة التى انفجرت فى كل ربوع مصر، وتساءل البعض: هل كان السيسى يبيع لنا الوهم؟.. ثم فوجئ الناس فى اليوم التالى بمهلة جديدة مدتها 48 ساعة، وبينما كان البعض يشكك فى اتخاذ موقف مع انقضاء المهلة.. خرج السيسى يعلن باسم ممثلى فئات الشعب وطوائفه وقواته المسلحة عن خارطة مستقبل تستجيب لإرادة الشعب وتزيح حكم المرشد.


استقامة القصد ووضوح الرؤية، كانا وراء المهلتين.


فلو كان غرض السيسى هو الانقلاب على الحكم، لما أعطى مهلة  الأيام السبعة، ولما مدها بعد انقضائها بيوم إلى 48 ساعة جديدة.


فبرغم يقينه مبكراً منذ فوز مرشح الإخوان بالرئاسة، بأن «الجماعة» عندهم تتقدم الوطن، وأن الأهل والعشيرة فى مرتبة تسبق جموع الشعب، فإنه ظل يحاور وينصح حتى اللحظة الأخيرة قبيل بيان الثالث من يوليو .. لعل وعسى!


وفى يوم الرابع والعشرين من يوليو، أى بعد 3 أسابيع من خارطة الثالث من يوليو، فاجأ السيسى الجميع بمطلبه إلى الشعب بالنزول إلى الميادين بعد ثمان وأربعين ساعة لتفويضه شخصياً وتفويض الجيش والشرطة بمواجهة الإرهاب والعنف المحتمل.


كثيرون من حول السيسى، حاولوا إثناءه عن دعوة الشعب للنزول مجدداً، خشية أن تكون الاستجابة ضعيفة تقوض شرعية الثالث من يوليو.


وكثيرون من المعلقين شككوا فى إقبال الشعب على النزول بعد 24 يوماً فقط من ثورتهم الهادرة، وراهنوا على فشل الدعوة.


لكن السيسى كان يدرك أن نزول الجماهير مجدداً، سوف يجدد شرعية الثالث من يوليو أمام أنظار العالم، ويدحض ادعاءات الانقلاب التى روجتها أبواق المعادين لمصر وشعبها وغيرهم ممن لم يتفهموا حقائق ما جرى.


وأثبت السيسى أنه يعرف شعب مصر ومعدنه أكثر بكثير مما يتصور مدعو المعرفة ومحتكرو الحديث بلسان الجماهير.


وأذكر أننى سألت الفريق أول السيسى بعد استجابة الشعب الهائلة ونزول الجماهير بعشرات الملايين إلى الشوارع والميادين: هل كنت تتوقع كل هذه الاستجابة؟!


فأجاب بهدوء: كنت أتوقع ما هو أكثر.


< < <


مثلما تعرف الجماهير البسيطة مفاتيح شخصية السيسى، أثبت الرجل أنه يعرف مفاتيح صندوق الشعب المصرى الذى استغلق على كثيرين غيره.


بعد شهرين اثنين من توليه المسئولية ودخوله إلى قصر الاتحادية، أعلن السيسى عن مشروع شق قناة موازية لقناة السويس، وكلف رئيس هيئة القناة بانجاز المشروع فى عام واحد بدلاً من ثلاثة أعوام، وطلب من الشعب الاكتتاب لتمويل هذا المشروع الحلم ومعه 3 مجموعات من الأنفاق فى الإسماعيلية والسويس وبورسعيد.


وفى غضون ثمانية أيام لا غير، كان المواطنون قد اكتتبوا بمبلغ 68 مليار جنيه.


وفى غضون 365 يوماً بالعدد، كان السيسى يبحر فى القناة الجديدة على اليخت «الحرية»، ومن ورائه الناقلات والحاويات العملاقة.


كان السيسى يريد أن يكون إنجاز القناة الجديدة فى هذا الزمن القياسى رسالة من المصريين لأنفسهم بأنهم قادرون على صنع المستحيل.


لكن الهدف الأول، هو ألا يفوت أوان انجاز هذا المشروع العملاق الذى أعدت له دراسات مستفيضة منذ سنوات ووجد السيسى أن هذا التوقيت هو الأنسب قبل أن يتم تحرير سعر الصرف وتتضاعف التكلفة ويصبح توفيرها شبه مستحيل، وقبل أن تعود حركة التجارة العالمية إلى نشاطها دون أن تكون القناة مستعدة لها، وأيضا لقطع الطريق على مشروعات أخرى قد تؤثر إذا توافرت لها الظروف وأنشئت، على عائدات قناة السويس المصرية.


< < <


يحترم السيسى كثيراً آراء أصحاب الخبرة والدراية ومستشاريه المتخصصين الأكفاء. يستمع إليهم ويستنير بأفكارهم لكنه أحيانا يخالفها، إذا ما وجدهم يستندون فيها إلى اعتبارات توقيت تتعلق بشخصه أو بشعبيته أو بتحسبات من ردود أفعال يتخوفون منها.


وهذا يردنا مجدداً إلى مبدأ استقامة القصد والتجرد إلا مما فيه مصلحة الوطن.


أذكر فى أكتوبر الماضى، أن الرئيس السيسى فى حواره مع رؤساء تحرير الأخبار والأهرام والجمهورية أعلن عن إجراءات وشيكة لا غنى عنها لإصلاح اقتصاد البلاد، وإنقاذ الأجيال المقبلة من مصير مجهول لو تغافلنا عن اتخاذ قرار الآن، كان يتعين اتخاذه قبل 40 عاماً مضت.


ويومها.. أخذت أكرر أسئلتى للرئيس حول هذا الموضوع، ملتمسا إرجاء تلك الخطوات على الأقل إلى ما بعد 11 نوفمبر، تحسبا لدعوات جماعات العنف والتخريب بالنزول يوم (11/11)، وخشية أن تكون الإجراءات وقوداً يصب فى غير محرك.


لكن الرئيس كان واضحاً وحاسماً وقاطعاً فى تأكيده على أنه ما جاء ليخادع الجماهير على حساب مستقبلها، وإنما جاء لمهمة إنقاذ وحماية وبناء، سيؤديها بما يرضى الله والوطن.


وفهمت أننى لست الوحيد الذى أبدى للرئيس مثل هذا التخوف.


وبثبات نفس ووضوح رؤية وصلابة عزم، اتخذ الرئيس قراره الصعب المدروس، وبرهنت الجماهير رغم معاناتها أنها أكثر وعيا مما كان يقدر الكثيرون، وأثبتت الأيام الأخيرة وشهادة مؤسسات التمويل الدولية أن قرار الإصلاح هو الأصوب فى منهجه وتوقيته.


وخلافاً لتقديرات بعض الخبراء حول الإجراءات الحمائية المقرر اتخاذها فى مواجهة قرارات الإصلاح، اتخذ الرئيس حزمة غير مسبوقة من الإجراءات تكلفت 75 مليار جنيه فوق ما كان مرصوداً فى العام المالى الماضى، وشملت علاوتين، وزيادة 15% فى المعاشات بحد أدنى 150 جنيهاً، وزيادة قدرها 100 جنيه فى معاش تكافل وكرامة ورفع حد الإعفاء الضريبى إلى 7200 جنيه، ثم زيادة نصيب الفرد فى بطاقة التموين من 21 جنيهاً إلى 50 جنيهاً، فى وقت كان الوزراء المختصون يتصورون أن الزيادة ستصل بنصيب الفرد إلى 40 جنيها على الأكثر.


لم يتردد الرئيس فى تقرير هذه الحزمة، عندما توافرت الاعتمادات فى الموازنة كثمرة من ثمار الإصلاح الاقتصادى، مثلما وعد الجماهير، وتأكيداً على انحيازه للعدالة الاجتماعية والتخفيف عن طبقات الشعب المتوسطة والبسيطة وغير القادرة.


< < <


من يتتبع خطب السيسى وكلماته فى المناسبات الوطنية والرسمية والمحافل الدولية على مدى 4 سنوات مضت منذ دعوة الرابع والعشرين من يوليو للتفويض فى مواجهة الإرهاب، يلمس وضوح الرؤية والهدف الذى لم يغب أبداً عن ناظريه.


كانت المهمة الأولى هى إنقاذ دولة تداعت دعائمها ولانت مفاصلها، ثم تحولت إلى تثبيت دعائم الدولة وحماية مقدراتها، وأضيفت إليها مهمة بناء دولة تليق بوطن عريق.


منذ 4 سنوات كان السيسى يتحدث عن تهديد رئيسى هو الإرهاب و3 تحديات صعبة هى العزلة الدولية والأوضاع الاقتصادية المتدهورة والخطاب الدينى الذى يشوه صورة الإسلام أمام العالم.


زال تحدى العزلة الدولية، بفضل سياسة مصر الجديدة التى تقوم على الانفتاح والتعاون والاحترام المتبادل وعدم التدخل فى شئون الآخرين، وتنتهج وضوح المواقف وثبات المبادئ.


ولعلها المرة الأولى فى التاريخ التى تحتفظ فيها مصر بعلاقات شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة وروسيا فى نفس الوقت ومعهما القوى الكبرى والفاعلة كالصين والاتحاد الأوروبى. فضلا عن عودة الدور المصرى إلى أفريقيا وإعادة بناء العلاقات وتوطيد الوشائج وتعزيز التعاون مع الأشقاء فى دول القارة.


وصارت مصر عضواً غير دائم فى مجلس الأمن، وأصبحت ضيفاً رئيسياً فى المحافل والتجمعات خارج إقليمها سعياً للتشاور معها والتعاون والاستماع إلى آراء قائدها فى القضايا الدولية وسبل حل أزمات هذه المنطقة الحيوية شديدة الاضطراب.


وتحول تحدى الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، إلى تحدى التنمية، وهو أمر لا يشك الرئيس فى قدرتنا على اجتيازه بالعمل المضنى واستمرار الإصلاح ويبشرنا بثمار الحصاد الكبير الأول عند الانتهاء من إنجاز عديد من المشروعات الكبرى والعملاقة فى منتصف العام المقبل.


أما الخطاب الدينى، فقد كانت دعوة الرئيس إلى إصلاحه وتصويبه انعكاساً لغيرة انسان مسلم على دينه، وهو يرى قلة متطرفة تختطف الدين وتوظفه لحساب أفكارها الضالة المضللة، فتفسد فى الأرض، وتسيء إلى الإسلام، وتظهر المسلمين فى صورة قتلة متعطشين للدماء ومخربين يبحثون عن التخريب والتدمير.


وفى آخر خطاب للرئيس فى الاحتفال بليلة القدر جدد دعوته مؤكداً أن تصويب الفهم الدينى دون المساس بالثوابت هو قضية حياة أو موت لشعب مصر والأمة الإسلامية.


الحديث عن الإرهاب، كان قاسماً أعظم فى كل ما تحدث به السيسى منذ كلمته يوم 23 يونيو 2013 ودعوته يوم 24 يوليو للنزول وحتى كلمته الأسبوع الماضى فى إفطار الأسرة المصرية ثم خطابه فى ليلة القدر.


وإذا رغبت فى معرفة مواقف وإجراءات قادمة لمصر فى مجال مكافحة الإرهاب، فارجع إلى ما أعلنه الرئيس السيسى من قبل:


- مصر ستواجه تهديدات الإرهاب على أرضها أو خارجها بكل قوة وحسم.


- لن ننسى الدول التى دعمت الإرهاب بالمال والسلاح والمنابر الإعلامية، ولن نتسامح معها وسنقف مع العالم فى التصدى لهذه الدول وفق استراتيجية يجب أن تسير على أقدام ثابتة غير مرتعشة.


- لا تهاون فى أمن مصر القومى ولن نترك من حاول أو يحاول المساس به.


< < <


مفيد أن ننظر فى مرايا ذاكرتنا، ونطل على مواقف مررنا بها، لاسيما فى أسبوع الحسم قبيل ثورة 30 يونيو وما بعدها، ونأخذ منها خلاصة الدروس والعبر وهى أهمية اصطفاف الكتلة الوطنية وتلاحم الجيش والشعب.


هناك من يريد لنا أن ننسى ما حققناه، حتى تهتز خطانا ونضل طريقنا إلى المستقبل.