ياسر رزق يكتب تقريراً إخبارياً عن القمة الأولى لدول حوض النيل:

المكاسب المصرية فى لقاء النهر بمنتجع «مونيو تو»

الكاتب الصحفي ياسر رزق رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم
الكاتب الصحفي ياسر رزق رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم

450 دقيقة أمضاها الرئيس عبدالفتاح السيسى أمس الأول فى أوغندا للمشاركة فى أول قمة لدول حوض النيل العشر بدعوة من الرئيس يورى موسيفيني.

أقلعت طائرة الرئيس إلى مطار عنتيبى فى الرابعة صباحا بعد ساعة واحدة من أذان الفجر، وحطت بمطار القاهرة فى السابعة والنصف ليلا، بعد 30 دقيقة من أذان المغرب 4 ساعات هى زمن رحلة الطائرة فى الذهاب وكذلك فى العودة.

هذه الزيارة السريعة والقمة المكثفة، سبقتها اتصالات ومشاورات متقطعة على مدى 7 أشهر مضت، منذ اقترح الرئيس موسيفينى عقد قمة لدول النيل تستضيفها بلاده، وكان آخرها الاتصال الهاتفى الذى أجراه الرئيس السيسى منذ 13 يوما مع الرئيس الأوغندي، بعد أن تهيأت الأجواء لانعقاد القمة، وجرى بحث آخر الترتيبات لتحقيق النتائج المرجوة من لقاء القادة.

*..*..*..*...*..*
هناك إطار يجمع هذه الدول هو مبادرة حوض النيل التى تأسست عام 1999 بغرض تنمية المصادر المائية لحوض النيل، وضمان كفاءة إدارة المياه والاستخدام الأمثل لمواردها والتعاون المشترك فيما بين دول الحوض وتعزيز التكامل الاقتصادى بينها.

لكن منذ 7 سنوات، وبالتحديد يوم 14 مايو عام 2010 ، وقعت 4 من دول حوض النيل هى إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا على اتفاق إطارى فى مدينة "عنتيبي " الأوغندية عرف فيما بعد بـ "اتفاق عنتيبي " بينما لم توقعه دولتان من دول الحوض حضرتا الاجتماع هما بوروندي والكونغو الديمقراطية ووسط مقاطعة مصر والسودان للاجتماع ورفضهما للاتفاق، بينما أعلنت كينيا أنها ستوقعه فى أقرب وقت.

اثار اتفاق عنتيبى الاطاري قدرا كبيرا من الجدل، لأنه أهدر مبادئ استقر عليها القانون الدولى فى مجال الأنهار المشتركة، على رأسها التوافق بين الدول، والإخطار المسبق لها قبل شروع أى دولة فى انشاء مشروعات مائية لها على النهر، فضلا عن أنه تجاهل مبدأ عدم الإضرار بدول المصب والحصة التاريخية لمصر والسودان فى مياه النيل.

كانت نتيجة اتفاق عنتيبى أن أعلنت مصر فى يوليو عام 2010 ، تعليق عضويتها فى مبادرة دول حوض النيل، وبسبب هذه الخلافات امتنعت مؤسسات التمويل الدولية والدول المانحة عن ضخ مساعدات لبرامج التعاون فى مبادرة حوض النيل.

حتى الآن لم يدخل اتفاق « عنتيبي » الإطاري حيز النفاذ ولم تنشأ مفوضية النيل التى نص عليها، لعدم تصديق أو انضمام غالبية الدول للاتفاق.


*..*..*..*..*..*
لماذا أذن ذهبت مصر الى القمة الأولى لدول حوض النيل؟

4 أسباب رئيسية كانت وراء تلبية الرئيس السيسى لدعوة الرئيس موسيفينى للمشاركة فى القمة، كما أوضح لى مصدر مصرى رفيع المستوي.

أولا: أن مصر ليست متعنتة فى موقفها، ولا تعوق التنمية الأفريقية ولا تمويل مشروعاتها بدول الحوض، وإنما المؤسسات الدولية هى التى أحجمت عن تقديم التمويل لمبادرة دول حوض النيل، لعدم شمولية "اتفاق عنتيبي " وعدم اتفاق دول المنابع الموقعة للاتفاق مع دولتى المصب وهما مصر والسودان.

ثانيا: أن الرئيس موسيفينى الذى يترأس الدورة الحالية لمبادرة حوض النيل، دعا إلى القمة بوصفه رئيسا لأوغندا، وأن هذه القمة لا تنعقد فى إطار المبادرة التى جمدت مصر عضويتها فيها.

ثالثا:
أن مصر حريصة على التعاون والتكامل مع شقيقاتها من دول الحوض فى الإطار الثنائى والجماعى بل مستعدة لاستئناف عضويتها فى مبادرة حوض النيل، شريطة أن تكون العودة على أساس احترام مبدأ التوافق وليس تصويت الأغلبية، والإخطار المسبق بالمشروعات التى تعتزم الدول إنشاءها فى مجال إدارة أو استخدام مياه النهر.

رابعا: إيجاد إطار مواز هو آلية قمم الرؤساء، يعاون فى الاستجابة لموقف دولتى المصب ويعيد الحيوية إلى مبادرة حوض النيل، ويتجاوز عوار "اتفاق عنتيبي " الذى خالف المبادئ الدولية المستقرة والمنفذة فى كل الأنهار، ومنها اتفاق نهر السنغال.

فمطلب مصر بوضوح ليس اختراع أوضاع جديدة، وإنما احترام القانون الدولى ومبادئه.

*..*..*..*..*..*

مهمة مصر فى تلك القمة والمداولات التى سبقتها  فى منتجع "مونيوتو " الأوغندية لم تكن يسيرة بل كانت بالغة المشقة، سواء فى المناقشات أو المواقف أو تحديد الأهداف.

كان هناك من كان يتمنى لو حول الحضور المصرى إلى فخ، وكان هناك من كان يروم لو تحولت المشاركة إلى عزلة، لكن مهارة الدبلوماسية المصرية وحنكة القيادة المصرية قطعت الطريق على أصحاب الغرض، وحولت القمة الأولى لدول حوض النيل إلى فرصة سانحة للتعاون بين الجميع.

قبيل قمة الجمعة، التقى كبار المسئولين بالدول العشر فى سلسلة اجتماعات استغرقت يوم الأربعاء بأكمله للإعداد للقاء القمة.

وكان سامح شكرى وزير الخارجية حاضرا فى منتجع "مونيوتو" يتابع ويوجه وكان أمامه هدف رئيسى هو عدم خروج الاجتماع بمستند أو وثيقة تتعارض مع الموقف المصرى أو تقوضه خاصة فيما يخص مسألتى التوافق والإخطار المسبق.

يوم الخميس.. كان موعد اجتماعات وزراء الخارجية والرى لدول الحوض للإعداد النهائى للقاء القمة.
الجولة الأولى من الاجتماعات بدأت فى التاسعة صباحا واستمرت خمس ساعات كاملة.

وعقب الإفطار انعقدت الجولة الثانية فى الثامنة مساء واستمرت حتى الثانية والنصف صباحا، أى لمدة ست ساعات ونصف الساعة.

حفلت المناقشات بشد وجذب، وكان هدف الكثيرين إعطاء قبلة حياة لاتفاق عنتيبي، ووضع مصر فى موقف الاختيار بين الرضوخ أو العزلة.

نجحت الدبلوماسية المصرية عبر التمسك بموقفها الصلب وبمنطقها الواضح، فى تعديل مواقف بعض الدول وعدم صدور أى وثيقة أو بيان أو إشارة تحمل ما يتعارض مع موقف مصر ورؤيتها.

وترك الوزراء للقادة فى قمة الجمعة النظر فى المسائل السياسية والاستراتيجية بعيدا عن الأمور الفنية وتجنب مواضع الخلاف، وتركها للنقاش على المستويين الفنى والوزارى فى لقاءات قادمة.

*..*..*..*..*..*
فور وصوله إلى مطار عنتيبى فى الثامنة من صباح أمس الأول توجه الرئيس السيسى بصحبة الرئيس موسيفينى إلى قصر الرئاسة حيث جرت مباحثات ثنائية بين الرئيسين.

وحرص الرئيس موسيفينى على أن يخصص جناحا فى القصر للرئيس السيسي، تعبيرا عن تقدير بلاده لمصر ورئيسها خلال زيارته الثانية لأوغندا فى غضون ستة أشهر.

فى هذه المباحثات الثنائية، أشاد الرئيس بالمساعى التى يبذلها رئيس أوغندا لاستعادة التوافق بين دول الحوض، وأكد حرص مصر على انهاء الانقسام وتجاوز الاختلافات بما يؤدى لاستعادة مسار التعاون بين جميع دول النيل وتحقيق المصالح المشتركة لها.

قبيل انعقاد القمة فى الثانية عشرة ظهرا، جرت مشاورات بين رؤساء الوفود، ولوحظ أن الرئيس السيسى ورئيس الوزراء الإثيوبى هايلى ماريام ديسالين، تبادلا حوارا ثنائيا بعض الوقت، وبدت المودة فى النقاش.

وكانت مداولات القمة فرصة للنقاش السريع بين السيسى وديسالين، فى ضوء عدم تمكن الرئيس السيسى من حضور القمة الافريقية المقبلة فى أديس أبابا التى تأجل انعقادها حتى مطلع الأسبوع القادم، نظرا لارتباطه بزيارة مهمة إلى المجر فى نفس التوقيت تبدأ يوم الأحد المقبل ولمدة 3 أيام لحضور قمة دول تجمع « الفيس جراد » ومن المقرر أن ينيب الرئيس السيسي  المهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء لحضور قمة أديس أبابا، بينما يشارك وزير الخارجية سامح شكرى فى اجتماعات المجلس الوزارى للاتحاد الإفريقى التى تسبق أعمال القمة.

*..*..*..*..*
فى الجلسة العلنية للقمة، تحدث رؤساء دول ووفود الدول العشر، وألقى الرئيس السيسى كلمة تضمنت عديداً من الرسائل ذات المغزى:
- مصر التى كانت فى طليعة دعم الكفاح الإفريقى فى معركة التحرير من الاستعمار، مستمرة فى الوقوف بكل قدراتها فى معركة التنمية والتحديث لمنطقة حوض النيل والقارة الإفريقية.

- المصلحة المشتركة فى الاستفادة من مواردنا الطبيعية والبشرية لتطوير مجتمعاتنا أعظم وأكثر أهمية من أية اختلافات قيدت مواقفنا على مدار عقود.

- يسقط على حوض نهر النيل 1600 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، ولا يتدفق منها فى مجرى النهر إلا حوالى 84 مليار متر مكعب فقط وتهدر مئات المليارات الأخرى.

- مصر تعتمد على مياه النيل بنسبة 97 %، وتعانى من عجز مائى يبلغ 21.5 مليار متر مكعب، وانحسر
نصيب الفرد من المياه إلى 640 مترا مكعبا سنوياً، بينما المتوسط العالمى أكثر من ألف متر مكعب للفرد.

- واجبنا التعاون معا للوصول إلى الأسلوب الأمثل والمستدام لاستخدام مواردنا المائية لتحقيق تطلعاتنا
التنموية وضمان الأمن المائى لكل دول الحوض وتجنب الإضرار بالحياة التى قامت وترسخت جذورها عبر
قرون على ضفاف النهر.

 - مصر مستعدة لاستئناف مشاركتها الفعالة فى مبادرة حوض النيل، إذا ما استعادت جميع دول الحوض التزامها بالعمل بمبدأ التوافق فى اتخاذ القرارات وإنشاء آلية للإخطار المسبق وفقاً للمعايير الدولية بشأن  المشروعات التى تقام على نهر النيل.

 وفى ختام كلمته.. أعلن الرئيس استعداد مصر لاستضافة القمة القادمة لدول حوض النيل.. وعقب نائب رئيس بورندى قائلاً ان بلاده بوصفها الرئيس الجديد لمبادرة حوض النيل، ستنسق مع مصر بشأن انعقاد القمة الثانية لرؤساء دول الحوض.

مداولات القادة ورؤساء الوفود خلال القمة ركزت على الرؤية الاستراتيجية للتنمية الشاملة لحوض النيل.. ونوه القادة بأهمية هذه القمة فى تعزيز المصالح المشتركة وتعظيم الاستفادة من الموارد المائية والبشرية لدول الحوض بما يسهم فى تحقيق التنمية المستدامة.

وكان الموقف المصرى خلال المداولات - كما يوضح السفير علاء يوسف المتحدث الرسمى باسم رئاسة الجمهورية - يتسم بإبداء مرونة مناسبة، دون أدنى تفريط فى حقوق أو مصالح مصرية.
*..*..*..*..*

فى الجلسة المغلقة للقادة ورؤساء الوفود التى اقتصرت عليهم بحضور وزراء الخارجية، قال أحد رؤساء الوفود: لا نريد أن تظهر هذه القمة على أنها بديل للاتفاق الإطارى (اتفاق عنتيبى).. وبدا على البعض تفهمهم لهذه القمة كآلية موازية للتعاون الاستراتيجى بين دول الحوض، تذلل العقبات أمام شمولية مبادرة دول حوض النيل لكل أعضائها.

وعقب الرئيس السيسى قائلاً فى ختام القمة: "إن ما أنجزناه يعد أمراً طيباً، وخطوة للأمام، حتى  لو لم نخلص فى اجتماعنا هذا إلى اتفاق.. فقد اتفقنا على استمرار التشاور والتواصل وبناء الثقة، وسوف ننجح".