ناتج الحفر يعادل ١٩٩ هرماً كهرم خوفو و١٣ مرة حجم أعمال السد العالي

آخر مرة دخلت مبني الإرشاد بمدينة الإسماعيلية، المقر الرئيسي لهيئة قناة السويس، كانت منذ ٢٨ عاما مضت.
يومها التقيت المهندس محمد عزت عادل رئيس هيئة القناة الأسبق متعه الله بالصحة والعافية.
أجريت معه حواراً لـ «الأخبار» في الذكري الثانية عشرة لإعادة افتتاح القناة.
وسألته عن أحلام الإدارة المصرية لمستقبل القناة فأجاب بالنص: «أحلام قناة السويس وضعناها علي الورق.. مشروع المستقبل هو ازدواج القناة من البحر الأحمر إلي البحر المتوسط، أي أن تكون هناك قناتان، والاتساع والعمق يتحدد حسب التطور في النقل البحري».
ونشرالحوار في جريدة «الأخبار» يوم٥ يونيو ١٩٨٧.
إذن لم يكن مشروع القناة الجديدة، فكرة طارئة حطت علي رأس الفريق مهاب مميش، وتلقفها الرئيس السيسي، وأمر بتنفيذها بين عشية وضحاها، دون مقدمات، ودون دراسات ودون جدوي!
كان لدي هيئة قناةالسويس مخطط كامل لمشروعات المستقبل، ينتظر التوقيت المناسب والجدوي الاقتصادية، والتمويل المتوافر، والأهم ينتظر الإرادة السياسية.
تماما.. مثلما لم يكن مشروع الإصلاح الزراعي، ومشروع السد العالي من بنات أفكار الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. كان المشروعان مطروحين ينادي بهما سياسيون وخبراء قبل قيام ثورة يوليو.. لكن التنفيذ لم يتم إلا بقرار زعيم هو جمال عبدالناصر.
< < <
أول أمس الإثنين.. اليوم العاشر قبل حفل افتتاح قناة السويس الجديدة أو بالتعبير العسكري يوم « ي ــــ ١٠ »
أدخل مبني الإرشاد لأول مرة بعد ٢٨ عاما. جئت مع وفد من زملائي رؤساء تحرير صحف دار «أخبار اليوم» وكبار كتاب «الأخبار» ومديري تحريرها. أتينا للقاء الفريق مهاب مميش رئيس هيئة القناة، وزيارة القناة الجديدة في جولة بحرية، لعلها هي الأولي في مياهها منذ يوم تشغيلها تجريبيا ومرور ٣ سفن حاويات بها صباح السبت الماضي.
تقاطعت ظروف العمل، فلم أتمكن من زيارة أعمال شق القناة الجديدة، منذ حضرت الاحتفال الذي أعلن فيه الرئيس السيسي عن البدء في حفرها يوم ٥ أغسطس الماضي، لكن أسعدني الحظ، أن شاهدت القناة الجديدة جواً بصحبة الرئيس من طائرة هليكوبتر في منتصف مايو الماضي. حينئذ كانت المياه تتدفق بين شاطئيها وتغطي مجراها بالكامل. وكانت الكراكات تباشر عملها بنشاط في التعميق وضخ نواتج الحفر علي الضفة الشرقية الجديدة.
< < <
بين الزيارتين جرت مياه كثيرة بين شاطئي القناة، تغير العالم وتغيرت المنطقة وتغير البلد.. وتغيرت !
من بين يدي أفلتت سنوات الشباب في أجواء مهنة غادرة تخدر من يعشقها، وتبقت ذكريات أقتات عليها مع حلول خريف، أروعها كانت في الحي الذي يقع فيه مبني الإرشاد وبين الحدائق التي يتوسطها، ومع رائحة الياسمين تعطر الأجواء.
كغيري من أبناء مدن القناة، أرتبط بقناة السويس برباط من القلب. عند منتصف مجراها نشأت مدينتي الاسماعيلية. ومن اسمها أصبح مسمانا بين مواطنينا المصريين : «أبناء القناة». في مدرستها تعلمت وتخرجت، وفي نواديها عشت أيام صباي.
حياتنا في المدن الثلاث موصولة بقناة السويس. إذا طالها عدوان وأغلقت، انغلقت أبواب منازلها وتركنا مدننا قسراً وتهجرنا، مثلما حدث في حربي ١٩٥٦ و١٩٦٧. وإذا عادت الطيور إليها والسفن، عدنا نعيش ونحلم ونغني علي شاطئها الغربي.
علي «السمسمية»، كنا نغني للقناة: «قناة السويس بناها أجدادنا عيسي وعويس.. جاء ديليسبس.. قال لنا «هس».. انتوا النص واحنا النص.. جاء جمال أبوالأبطال حرر مصر من الاستعمار.. يعيش «جمال».
وعندما عدنا إلي مدننا بعد نصر أكتوبر الذي لا يعرف قيمته بحق، إلا من تجرع مذلة الهزيمة ومرارة التهجير ودموع وأد الحلم.. غنينا علي أوتار السمسمية : «يابحر القنال أنا راجع راجع للديار.. وف عيني أحلي ابتسامة.. وعلي كف نهار».
جئت إلي القناة الجديدة.. في قلبي ضحكة.. وعيني ابتسامة.. وعلي كفوف كل المصريين نهار.. نهار جديد يشرق بالثقة في النفس وبالعزة والكرامة وبالأمل الذي لم يفارقنا مهما مضت الأيام وتغيرت الأحوال.
< < <
في مكتبه الذي يطل علي نقطة التقاء بحيرة التمساح بقناة السويس- التقيت الفريق مهاب مميش قبل الاجتماع الموسع بوفد «أخبار اليوم» الكبير.
أعرف الفريق مميش منذ سنوات، توثقت علاقاتنا حين كان قائدا للقوات البحرية وعضوا بالمجلس الأعلي للقوات المسلحة أثناء ثورة ٢٥ يناير، وكان له موقف شجاع حين جاءت لحظة الاختيار بين الأبيض والأسود.
أبرز سجايا الفريق مميش أنه رجل مهذب، دمث الخلق، هادئ، أنيق العبارة والمظهر.
> قلت للفريق مميش: متي جاءت إليك فكرة تنفيذ مشروع القناة الجديدة؟
- قال : توليت منصبي يوم ١٢ أغسطس ٢٠١٢، وبعد٦ أيام شحطت سفينة في بورسعيد، وأغلقت القناة، ويومها تساءلت: كيف لسفينة أن تغلق هذا المجري الملاحي الحيوي للتجارة العالمية؟!.. وأحضرت كل الدراسات والمخططات التي أعدتها هيئة القناة في عهدي المهندس مشهور أحمد مشهور والمهندس عزت عادل. ومن بينها مشروع الازدواج، أو انشاء قناة جديدة تواجه ازدياد حركة الملاحة العالمية وتقلل زمن العبور وترفع التصنيف العالمي لقناة السويس.
ثم أضاف : في يوليو عام ٢٠١٣، بعد اسابيع من تولي الرئيس السيسي المسئولية.. كان يتصل بي للاستفسار عن أمر. وقلت له: كان عندي اليوم رئيس الوزراء المهندس ابراهيم محلب وأخبرته أن هناك مشروعا لو نفذناه، سيغير وجه مصر هو ازدواج قناة السويس.. وقال لي المهندس محلب بعد تفكير: هذا سيكون مشروع القرن، ورد الرئيس بهدوء ربنا يوفقكم.
بعد مكالمة الرئيس.. شعر مميش بشئ من الإحباط وظن أن الرئيس يصرف النظر عن المشروع. لكن في السادسة صباحاً جاءت مكالمة علي جهاز التليفون الخاص. كانت من الرئيس.
قال له السيسي: أنا أزعجت سيادتك؟.. هل نمت؟.. أنا لم أنم.
وكعادته طلب السيسي من مميش أن يأتيه بالدراسات فوراً. لكن رئيس هيئة القناة طلب منه مهلة بضعة أسابيع لتحديث الدراسات وإكمال الرسومات الهندسية وإحضار المعدات.
تحدد مبدئيا يوم ٢٦ يوليو ٢٠١٣ لحفل تدشين المشروع الجديد، ثم أرجئ بسبب إجازة عيد الفطر إلي يوم ٥ أغسطس. كانت الدراسات تقول أن المشروع يستغرق ٣ سنوات. لكن الرئيس طلب إنجازه في عام واحد. ورد مميش عليه قائلا: تنفذ يافندم. وكان يعرف أنه بالإمكان اختصار الزمن بشرط العمل ٢٤ ساعة يوميا وبإشراك أكبر عدد من الشركات. وكان الرئيس يريد أن يتحقق المشروع في أقصر مدة زمنية ممكنة، واثقاً في قدرة المصريين، وعارفاَ أنه بالإضافة لعائده الاقتصادي، سيرفع معنويات المصريين إلي السماء، وسيجدد ثقتهم بأنفسهم، وإيمانهم بقدرتهم علي صنع ما يظن كثيرون أنه في حكم المستحيل :
< < <
يوم ٥ نوفمبر الماضي.. دخلت أول كراكة في القناة الجديدة، وفي ٥ فبراير.. كان الفريق مميش وعدد من معاونيه يبحرون في جزء من القناة الجديدة.
وفي إبريل الماضي.. جاء الرئيس إلي القناة الجديدة وأبحر فيها والتقي العمال الرجال الذين يواصلون العمل ليل نهار لتحقيق الحلم بأعلي كفاءة في الموعد المحدد.
لم يسعدني الحظ أن التقي أول أمس اللواء كامل الوزير رئيس أركان الهيئة الهندسية والمشرف علي مشروع شق القناة الجديدة..
رجل من معدن صلب هو اللواء كامل الوزير.. أحب كلما التقيته في مشروع أو مناسبة أن أشد علي يديه القويتين وأري علي وجهه سمرة لفحة الشمس الحارقة لقائد يعشق العمل الميداني ولا ينام.
احترمت اللواء كامل الوزير أكثر.. عندما سمعت الرئيس يداعبه في مناسبة ويقول له : «انت معايا ولاّ معاهم ياكامل».. فرد الرجل: «أنا مع سيادتك في الحق يافندم».
هذه عينة من الرجال نحتاجها في كل موقع.. ويومها أدركت لماذا اختاره السيسي بالذات ليشرف علي مشروعات القناة والطرق وغيرها. واطمأننت أكثر للسيسي ولاختياراته.
< < <
كان هناك خياران لإنشاء القناة الجديدة. أحدهما بطول ٧٥ كيلو متراً من جنوب البحيرات المرة إلي تفريعة البلاح. ويفصله عن قناة السويس الحالية مسافة وشريحة كبيرة من الأرض. والثاني بطول ٧٢ كيلو متراً، منها ٢٧ كيلو متراً في مياه البحيرات المرة لإنشاء مجري ملاحي بها، و٣٥ كيلو متراً من شمال البحيرات إلي تفريعة البلاح وتفصلها عن القناة القديمة ٩٠٠ مترعلي الأرض التي كان خط بارليف يشغل جزءاً منها، و١٠ كيلو مترات شمالاً للتفريعة الغربية لجزيرة البلاح.
ورُئي الأخذ بالخيار الثاني لاعتبارات عديدة منها ضرورات الأمن القومي.
حجم المياه وحجم الحفر في القناة الجديدة يزيد كثيراً عن حجمها عند إنشاء قناة السويس «١٨٥٩- ١٨٦٩». عرض القناة القديمة كان يبلغ ٨٠ متراً وعمقها ٨ امتار بطول ١٧٠ كيلو مترا أما القناة الجديدة وهي بطول ٧٢ كيلو متراً فيبلغ عرضها ٣٤٠ متراً وعمقها ٢٤ متراً ويصل في بعض المناطق إلي ٢٦ متراً.
أعمال التوسيع والتعميق في القناة القديمة التي تمت علي مراحل زادت عرضها ليتراوح بين ٢٦٠ و٣٠٠ متر، وعمقها إلي ٢٤ متراً.
إنشاء القناة الجديدة يختصر زمن عبور السفن بقناة السويس من ٢٠ ساعة إلي ١١ ساعة لأن السفن لن تضطر بعد ازدواج المجري الملاحي إلي الانتظار في منطقة البحيرات هذا الفرق من الساعات، لحين مرور قافلة الشمال أو قافلة الجنوب.
< < <
٣٥ ألف عامل اشتركوا في حفر القناة الجديدة بمعاونة ٤٥ كراكة. كان عدد الذين حفروا قناة السويس منذ أكثر من ١٥٠ عاما مليون ونصف المليون من بين ٤٫٥ مليون مصري هم عدد سكان مصر في ذلك الحين.
بحمدالله.. لم نفقد أرواحاً في حفر القناة الجديدة، بينما خسرنا في قناة السويس ١٢٠ ألف مصري، ماتوا بالسخرة والكرابيج والأوبئة!
ناتج حفر القناة الجديدة بلغ حجمه ٥١٠ ملايين متر مكعب، منها ٢٦٠ مليون متر مكعب من الرمال المشبعة بالمياه في عمق البحيرات المرة.
هذا الحجم يعادل ١٩٩ هرماً كهرم خوفو، ويعادل ١٣ مرة حجم أعمال السد العالي.
أكثر من رقم قياسي سجلتها القناة الجديدة منها معدل الحفر الشهري البالغ حجمه ٤١٫٥ مليون متر مكعب من الرمال، وهو ٥ أضعاف الرقم القياسي العالمي السابق.
تكلفة القناة الجديدة بلغت ٤ مليارات دولار، أي نحو ٣٠ مليار جنيه من بين ٦٤ مليارجنيه قدمها الشعب في شهادات استثمار القناة خلال ٨ أيام وهو ايضا رقم قياسي. باقي المبلغ سيستخدم في انشاء ٦ أنفاق، منها نفقان للسيارات ونفق للقطارات شمال الإسماعيلية، ومثلها جنوب بورسعيد. الآن اكتمل تجهيز مداخل ومخارج الأنفاق، وستصل في أكتوبر معدات الحفر العملاقة لشق أجسام الأنفاق تحت القناتين.
ناتج حفر القناة الجديدة، استخدم لإنشاء 3828 من أحواض الترسيب علي ضفتها الشرقية، منها 460 حوضا انتهي تجهيزها كمزارع سمكية علي مياه القناة لإنتاج أسماك الدينيس والقاروص والجمبري بالتعاون مع الخبرة الإسبانية.
< < <
مع زملائي بدار «أخبار اليوم».. استقللنا اللنشين «سيناء» و«الأقصي» - لاحظوا الاسمين - في رحلة بحرية بالقناة الجديدة من نادي الشاطيء «الدانفاه» بعد لقائنا بالفريق مميش.
مازال النخيل علي شاطيء النادي يحمل آثار رصاصات وشظايا مدافع العدو في الحروب. لكنه مازال يقف شامخاً يطل علي سيناء.
أبحرنا من القناة القديمة إلي القناة الجديدة عبر قناة عرضية شمال المعدية رقم (6) التي استشهد عند مرساها الغربي الفريق عبدالمنعم رياض رئيس الأركان الأسبق. هناك 4 قنوات عرضية تصل القناتين علي طول المجري الملاحي.
لايبدو أي فرق بين القناتين، إلا في اتساع القناة الجديدة بقدر ما. لكن هناك فرقا في المشاعر عندما تبحر في كل منهما. شعور بالشجن في القناة القديمة التي ارتوت بدماء عشرات الآلاف من المصريين في شقها وفي الدفاع عنها وفي عبورها لتحرير سيناء. وشعور بالفخر في القناة الجديدة وبالكبرياء الوطني. نحن إذن قادرون، فلماذا نقعد عن أشياء باستطاعتنا، ونحن أصحاب همة؟!
نسخر ونحن نبحر في مياه القناة الجديدة من الملحدين بالوطن الذين يأكل قلوبهم الحقد كلما اقترب وقت الافتتاح ويقاتلون للتشكيك في كل إنجاز. يقول أحدنا: سيخرسون وهم يشاهدون هذا الإنجاز علي شاشات التليفزيون. ويرد عليه آخر: «سيقولون انه «فوتوشوب» مثلما قالوا علي مظاهرات عشرات الملايين في ثورة 30 يونيو».
ويقول ثالث: معك حق.. إنهم ككفار قريش.. لو رأوا الله جهرة، ما آمنوا»!
< < <
أحاول ادخار مشاعري لليوم المشهود.. السادس من أغسطس.
وأري مشاعر البهجة تقفز من عيون زملائي، وأتذكر أمارات السعادة علي وجه الفريق مهاب مميش وهو يروي تفاصيل مكالمته مع الرئيس في يوم التشغيل التجريبي للقناة الجديدة.. عندما هنأ الرئيس قائلا: «مبروك.. وقبل مرور سنة».
فرد السيسي: «اشكر لي الرجال.. وقبل جبين كل واحد اشتغل».
يبدو مميش مطمئنا لخروج الاحتفال بالمظهر الذي يليق بمصر وإنجازها. ويبدو أيضا منشغلاً بما بعد الافتتاح. هناك مشروعات ومهام أخري في الطريق.. وهناك السيسي صاحب الهمة والقرار والإرادة.. وهناك الشعب صانع المستحيل!.