المؤكد أن هناك «خطأ» ما فى كيفية التعامل المصرى مع ملف « جوليو ريجينى، ذلك الشاب الإيطالى الذى توفى فى مصر منذ شهرين تقريباً، وأصبح أيقونة للمعارضة الدولية ضد مصر، إلى الحد الذى نشرت فيه الصحف الإيطالية منذ عدة أيام تقريراً عنوانه « من بوعزيزى إلى ريجينى: مستقبل الربيع العربى»، وكأن ريجينى أصبح رمزاً من رموز هذه الثورات العربية، أو على الأقل أصبح امتداداً لها فى مستقبل غير منظور، وفى نتائج لا نستطيع التكهن بها..

اخطأنا عندما لم يكن لنا تصور عام أو رؤية عن القضية.. متوسط الوقت الذى تستغرقه كثير من أجهزة الأمن المحترفة فى التوصل إلى «المفاتيح» الأساسية لأى قضية لا يصل إلى هذه المدة التى واجهتنا فى مصر.. حتى الأن، لدينا خمس روايات، وسيناريوهات، وتصورات عن كيفية مقتل ريجينى.. يناقض بعضها البعض، وتلقى بظلال من الشك عليها جميعاً.. أكاد أسمع عبد الحليم حافظ فى كلمات كامل الشناوى «بعضى يمزق بعضى»، تعدد الروايات دليل ضعف.. تعدد السيناريوهات دليل شك فيها جميعاً.. نحن منقسمون من الداخل، ومهزوزون فى الخارج.. والنتيجة عدم قدرة المجتمع الدولى على قبول أى رواية من رواياتنا..
أخطأنا عندما عودنا وسائل الإعلام المصرية على ألا يكون لها وجهة نظر خاصة بها.. وألا يكون لها أدوات تمكنها من التفرقة بين الغث والسمين من الروايات والسيناريوهات.. وسائل إعلامنا تقلبت خمس مرات خلال شهرين.. تبنت خمسة مواقف متناقضة، ودافعت عن كل منها دفاعاً مستميتاً، إلى أن يثبت فشلها، وتتخلى الدولة عنها.. والنتيجة أنها فقدت مصداقيتها، وفقدت اعتبارها مصدراً يمكن الاعتماد عليه فى الحصول على معلومات حقيقية بشأن أى قضية مستقبلية..

الصحافة الاستقصائية فى كل دول العالم المتقدم عليها كشف الأخطاء، وعليها الوصول إلى الحقائق بشأن القضايا الجوهرية فى المجتمع.. ابحث عن الصحافة والإعلام وراء كل قضية وكل فضيحة مجتمعية.. بدون هذه النوعية من الصحافة والإعلام يتم «الطرمخة» على كثير من القضايا، ويتم «دفن» كثير من المشكلات.. وسائل الإعلام فى بلدنا تحتاج إلى وضعها على جهاز التنفس الصناعى فى ظل عدم قدرتها على عرض القضايا ونقل المشكلات نقلا أمينا وصادقاً.. تعاملها مع قضية ريجينى يشير إلى موتها إكلينيكياً.. غير أن لدينا الأمل فى إمكانية عودتها إلى الحياة بمزيد من الاحترافية والمهنية والمصداقية.. لدينا أمل وحلم..
اخطأنا عندما انتظرنا ردود فعل وسائل الإعلام الغربية على مقتل ريجينى، ثم بدأنا الرد على اتهاماتها.. رد الفعل والتبرير كان أضعف من الفعل ومن الاتهامات الموجهة.. وسائل الإعلام الإيطالية والدولية «علمت» علينا كلنا.. صورة مصر فى الخارج حالياً، ومن خلال تحليل مخرجات هذه الوسائل، وصلت إلى حد من السوء لم تصله من قبل.. لا يكفى أن تقول « أنا مش كداب» عندما يتهمك البعض بالكذب.. النفى وحده لا يكفى..
أخطأنا عندما لم نتعلم من تجاربنا السابقة.. نمتلك ذاكرة السمك فى وسائل الإعلام.. ذاكرة قصيرة المدى وأقرب إلى الغربال الواسع الذى يسمح بمرور كل شىء من خلاله.. لم نتعلم من سقوط الطائرة الروسية فى شرم الشيخ، ومن حادث السياح المكسيكيين فى الواحات.. البدايات الصفرية لها الغلبة فى معالجاتنا الإعلامية.. نبدأ دائماً من الصفر.. ومن تحت الصفر أحيانا.. والنتيجة صفر مربع، وكعكة فى شهادة أدائنا..
نحتاج إلى صدمة حقيقية، وإلى «جردل مية ساقعة جداً» يتم سكبه علينا جميعاً حتى نفيق، وحتى نعى أننا فى أزمة حقيقية..