«معانا».. ملاذ المُسنين والأطفال من التشرد | فيديو

صورة من الفيديو
صورة من الفيديو

مشاعر مختلطة عايشناها داخل مؤسسة «معانا لإنقاذ إنسان»، مابين حزن وحسرة على من ترك أقرب الناس له دون رحمة أو حتى شعور بالذنب تجاههم، ليواجهو مابقى من حياتهم بمفردهم دون أنيس أو ونيس، وبين فرحة بفرحة هؤلاء الذين منحتهم الحياة فرصة جديد للعيش حياة آمنة كريمة، بعد أن كان الشارع مأواهم والفزع ملاذهم، وتبدلت أحوالهم ليصبح لهم مأوى وأهل، وخلف كل هذا يقف جيش متكامل من أناس منحهم الله من الرحمة ولين القلب والرأفة بهؤلاء سواء كانو «مسنين أو أطفال»، ما يعينهم على مساعدتهم وإدخال البسمة والسرور مرة أخرى لقلوبهم، على وجوههم ترتسم علامات الرضا والسعادة بما يفعلون، رغم مشقة هذا العمل نفسيا وبدنيا، بالضافة الى انهم قامو بعمل دمج بين المشردين من المسنين والأطفال.

 

محفوظ: ولادى رمونى فى الشارع بعد ماخدو منى كل حاجة

عم محمد محفوط الرجل الذى صاحب ال57 عاما، هو إحدى ضحايا عقوق الأبناء، فبعد أن كان يمتلك مطعما ومنزلا ويصرف كل مايملك على أسرته، أصبح نزيلا فى دار معانا لإنقاذ إنسان منذ عام ونصف بعد أن أصابه المرض، وتأفف منه أولاده حتى أن أحدهم أشهر فى وجهه السلاح، وأخذوا منه كل مايملك، ثم تركوه للشارع الذى أصبح ملجأه ومأواه، إلى أن ذهب إليه فريق الإغاثة بالدار.

«مش عايزهم ومش عايز ارجعلهم تانى، ولما ربنا يشفينى إن شاء الله وارجع أقف على رجلى، هفضل هنا، وهرجع اشتغل وافتح فرع مشويات هنا، أنا كنت جزار وكبابجى» كلمات حسم بها عم عيد موقفه من أسرته، مؤكدا نسيانه ان كان لديه زوجة وابناء، بعد أن وجد فى الدار وبين النزلاء والمشرفين ما حرم منه من ود ورحمة ومحبة من أقرب الناس له، واجريت له عملية تغيير مفصل بالركبة وفى انتظار العملية الثانية، بمساعدة ورعاية العاملين بالدار.

عم صابر: كلهم هنا اخواتى وأولادى وماحدش بيقول كلمة تزعلنا

عم صابر عبدالعزيز تجاوز عمره الستون بأربعة أعوام، تحدث معنا وهو على كرسى متحرك، لعدم قدرته على تحريك قدمه اليسرى، وهذه مشكلته الصحية التى اقعدته عن عمله، فكان يعمل حدادا لسنوات طويلة، إلى أن توقفت قدمه قتوقف عن العمل، انفصل عن زوجته من فترة طويلة، ورغم أن لديه من الأبناء خمسة إلا أن أحدا لم يسأل عليه منذ سنوات.

بدأ يروى قصته قائلا: «منذ ثلاثة أشهر كنت مرمى فى كشك ببولاق أبو العلا، وضعنى به أهل الخير عندما وقعت من المرض، ولكن كانت حالة قدمى تسوء يوما بعد يوم، ولم يكن لى أحد يرعانى، فاولادى رغم انهم كبار وفيهم اثنين متزوجين ولديهم أبناء، أى انهم يعرفو معنى الضنا والأبوة، لكن لم يسأل عنى احد منهم».

 بعد أن وجد الأهالى بالمنطقة أنه يحتاج لرعاية صحية، تواصلو مع دار معانا كما أوضح عم صابر، وتم نقله من خلال فرقهم الى الدار، وتم التعامل مع حالته صحيا، وكان يذهب به أحد أفراد العمل بالدار للمستشفى للكشف والمتابعة، قائلا: «الحمد لله كلهم هنا اخواتى وأولادى، واهم حاجة شوفتها هنا الراحة النفسية والمعاملة الحلوة، ومحمد صلاح التمريض، بيجى معايا المستشفى وبيريحنى جدا وعمره مازهق عليا ولا قالى كلمة تزعلنى، ودايما كلهم بيضحكو فى وشنا».

واختتم صابر حديثه قائلا: «مش عايز أخرج من هنا، ولومشيت على رجليا هقعد هنا برضو واشتغل معاهم، واحب أقولهم ألف شكر وخصوصا الدكتورة أمل مسئولة الجانب الطبى بالدار».

عيد: اتمنى زوجتى وأولادى يرجعولى ويسامحونى

«كل إنسان له غلطة، ومش هقول أصدقاء السوء لأن صاحب السوء هو النفس «إن النفس لأمارة بالسوء» هذا مابدأ به عيد ربيع كلامه عن أزمته التى أوصلته للدار، متحدثا الينا من على كرسى متحرك، لا يستطيع أن يقيم رأسه، ولا يتذكر سنه، فقط يعرف أنه من مواليد 1966، وكان يعمل فى صناعة البراويز.

أحضره أهله الى الدار بعد ان توفى شقيقه الذى كان كل شئ له، وتدهورت حالته تماما بعده، وهذا بعد أن انفصلت عنه زوجته بسبب تصرفاته «عارف إن أنا اللى غلطان، عشان كان صوتى من دماغى وبس، لحد مادمرت نفسى، وبقو هما يتكسفو منى، ورغم كدة أصريت على اللى كنت بعمله».

«بعد ما أخويا مات كنت هبقى فى الشارع وحيد، فاكيد هنا أحسن طبعا» بهذه الكلمات أوضح عيد شعوره بالتواجد فى الدار، ويؤكد رغم المعاملة الحسنة والالفة والمحبة التى وجدها بالدار، إلا أنه لايوجد ما يعوض الأهل، ومسحة يد إبنك أو اللى منك، متمنيا أن يصل صوته لزوجته وأبناءه ويسامحوه، وأن يعيش فى أى مكان قريب منهم، موجها رسالة للشباب بعدم إتباع أهوائهم، ومراعاة من هم حولهم.

محمد ومصطفى.. شقيقان من ذوى الاحتياجات

محمد ومصطفى، شقيقان مصابا بضمور فى المخ، دخلا الدار معا.. وانتقلت شقيقتهم القعيدة وأمهم المريضة لدار أخرى خاصة بالنساء، وهذا بعد أن توفى الأب الذى كان كل شئ لهم، وكان يعمل نهارا ويعود مساءا ليرعى ويطبخ ويطعم، تحدثا إلينا عن معاناتهم بعد وفاة سندهم وعائلهم، وفهمنا كلامهم بصعوبة لعدم قدرتهم على الكلام.

الأب كما أوضح محمد كان يعمل سائق، وتعرض لحادث طريق توفى على إثره بعد نقله للمستشفى بعدة أيام، عمل حادثة بالعربية ومات، كان بيعملنا كل حاجة، وأضاف مصطفى «كان بيجى من الشغل يغسل الهدوم ويدخلنا الحمام، ويعملنا كل حاجة»، متابعا: «اتبهدلنا بعد موته، وأولاد الحلال جابونا بعد ما حالتنا اتدهورت ومبقاش فى حد فينا يقدر يعمل حاجة، ودلوقتى مرتاحين الحمد لله هنا فى الدار».

مسئولة دار الكبار: اسعد أوقاتها عند رؤية أحد يعود لأهله بعد فترة غياب

نهلة أبو السعود مسئولة دار الرجال بمؤسسة معانا، حاصلة على بكالريوس خدمة اجتماعية، تعمل منذ أكثر من 20 سنة فى هذا المجال، تركت أحلامها الشخصية، ووهبت حياتها ووقتها لهذه الفئة المنسية من قبل القريب قبل الغريب، لم تكل يوما أو تمل من هذا العمل، وكأن كل يوم يضيف لقوتها وتحملها رصيدا أكبر يعينها على مواصلة عملها الشاق والمرهق بدنيا ونفسيا.

أسعد أوقاتها عند رؤية أحد يعود لأهله بعد فترة غياب، أو عندما ترى أحد الحالات يبدأ فى التعافى نفسيا وصحيا بعد أن كان مدمرا، وأصعب ما يمر بها عندنا تاتى لها حالة لشخص كان ذو قيمة ومستوى وبفعل صدمات أو مشكلات معينة أصبح من مشردى الشوارع، وهذا ما حدث مع طبيب صيدلى ولديه صيدلية، والان اصبح نزيل فى إحدى المستشفيات النفسية والعصبية، كل هذا نتيجة الضغط النفسي، وكان يجلس فى مدخل بيته ولم يستطع احد ان يقنعه بالتحرك، إلى أن ذهب له فريق الإنقاذ الخاص بالمؤسسة، وجاء للدار وبعدها تم حجزه بالعباسية تحت إشرافنا.

وعن طبيعة عملهم تقول نهلة: «بعد أن تأتى لنا الحالة نبدأ فى تأهيلها نفسيا من خلال الاخصائية النفسية، تبدأ فى مرحلة الإعداد النفسي وعدم التفكير فى المرحلة السابقة قبل دخول الدار، والحالات التى تعانى من مشكلات نفسية يأتى دكتور نفسى يكشف عليها، ويحدد ما إذا كانت حالتها بسيطة يصف لها العلاج ونتولى نحن مهمته، وإذا كانت الحالة صعبة نرسلها لأى مستشفى تحت إشرافنا، أو لو أن له أهل يمكنه رعايته ويريدونه يأخذوه معهم، ونقوم بالمتابعة لمدة 3 اشهر لضمان أنه استقر معهم».

وأوضحت أنهم أول دار تقوم بعملية الدمج بين الأطفال والكبار من المشردين كنوع من التعويض الاجتماعى عما فقده كل طرف منهم، قائلة: «خلال شهر قمنا بها مرتين، وذهبنا بالأطفال لدار الكبار، لقضاء اليوم كرحلة، وكان الجميع فى منتهى السعادة، والمسنين كانت فرحتهم لاتوصف فمنهم من لديه حفيد أو طفل مفتقده، ومن عقله صغير ووجد من يلعب معه من الأطفال».

دار الأطفال.. ضحك ولعب وحب

حالة من البهجة تتملكك بمجرد أن تدخل لدار الأطفال، وكأنك فى حديقة زهور مختلفة الألوان والأشكال، وأكل منها رائحته المميزة، فمنهم الحنون الذى يتعلق بكل من يدخل، ومنهم المتطور المنعزل لايحب الزحام والغرباء، ومنهم من يلتهى دوما بالألعاب، وهذا رغم صغر أعمارهم التى لا تتجاوز لأكبرهم عامين ونصف.

الأولاد الموجودين حالياً محولين من مكان آخر، وجميعهم للأسف مجهولى الهوية، هذا وفق حديث «هاجر عصمت» المسئولة عن دار الأطفال فى مؤسسة «معانا» لإنقاذ إنسان معنا.

وتابعت: «الأطفال تأتى لنا للأسف بسلوكيات وتصرفات مختلفة تماما، ونحن نحاول معهم تدريجيا لنعودهم على المكان.. واستطعنا بالفعل تعديل الكثير من سلوكياتهم رغم صغر أعمارهم».

هدفها وحلمها من خلال العمل فى هذا المجال أن نصل إلى «مصر بلا تشرد»، قائلة: «أن تأخذي هذا الطفل وتحميه من الشارع، وتقدمى له الرعاية والتعليم ليصبح إنسانا سويا نافع للمجتمع من أهم الرسائل فى الحياة».

الأطفال تبقى فى هذه الدور حتى سن 14 سنة، وبعدها تنتقل لدور الكبار، وعلى قدر أن التعامل معهم مسئولية كبيرة إلا أن له متعه خاصة، ويتم العمل على عدم تعلق الطفل بأم واحدة بديلة لعدم حدوث مشاكل واضطرابات للطفل، فى حال أن هذه الأم لم تستطيع الاستكمال معه، وإن كان لهذه مشكلة أن الطفل لايكون له إنتماء قوى لأحد، ولكن سلبيتها أهون من أن يتعلق بشخص ويفقده فى وقت من الأوقات.

من أصعب الحالات بالداخل «عبدالله»، الذي يعاني من إعاقة فى زراعه، إلا أنه يعتمد على نفسه جيدا كما اوضحت المشرفة، وتجده أكثر الأطفال انطواءا وابتعادا عن المجموعة، وحتى عند وجود ضيوف أو زائرين لا يقبل عليهم مثل الأطفال، قد يكون لشعوره أنه مختلف عن رفقائه، وحتى معنا كان يحاول الإنزواء بعيدا عنا وعن عدسة الكاميرا.

 

فنى تمريض: كفاية دعوتهم لما تعملهم خدمة دى بالدنيا بحالها

محمد صلاح فنى تمريض 23 سنة، يعمل منذ سنتين فى «معانا»، لا يجد فى عمله تعب من الأساس، معتبرا أن العمل فى هذه الأماكن هدفه الأول خيرى قبل أن يكون مادى، قائلا: «وجدت معاهم حياة مختلفة، فهم رغم ما عاشوه من أزمات أوصلتهم لهذا الوضع وهذا المكان، إلا أن أقل كلمة وابتسامة ترضيهم وتفرحهم، بحس كأنى مع عائلتي الثانية».

نظام العمل 26 يوم وأربعة أيام فقط إجازة، إلا أن محمد كثيرا لا يريد الذهاب فى الإجازة، لشعوره بالمسئولية تجاه هؤلاء المسنين الذين تعلقو به، معلقا: «دا كفاية دعوتهم لما تعملهم خدمة دى بالدنيا بحالها».

 وعن أسرهم لم يجد محمد ما يقوله عنهم وكيف انهم استطاعوا أن يتخلو عنهم بهذه الصورة، قائلا: «نحن لسنا من دمهم ولا يهون علينا أن نتركهم يوم واحد، ويأتى علينا أيام نتعب من حال الحالة وليس من الشغل، ولكن فى النهاية ربنا بيعنا ويهون علينا عشان خاطرهم».